آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الإسلام السياسي يدفع ثمن قبوله بنصف ثورة

 

د. سعيد الشهابي ..

عالم اليوم لا يختلف في أبعاده الإنسانية عن عالم الأمس جوهرا، وان كان يختلف هامشا. وبعيدا عن الشعارات ومقولات التنوير والحداثة وما بعد الحداثة، فمن الصعب الاعتقاد بان تطور الأداء السياسي في «الدولة الحديثة» قد اختلف تماما عن ممارسات حكومات الأمم السابقة، فالتفرعن والاستبداد والجشع والفساد، تتجسد يوميا في العصر الحاضر بنمط مشابه لما كان يجري في القرون الوسطى.

 

ومع اختلاف شكلي في أساليب القمع، فأن المجتمع المعاصر ما يزال غير قادر على حماية إنسانية البشر وكرامته. وبرغم تعدد الأطروحات الفكرية والإيديولوجية والسياسية، فأن جوهر التاريخ البشري يؤكد حقيقة مهمة: أن الحكم منظومة عملية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ولا تخضع لمقولات الدين أو المبدأ أو القيم. كما يتأكد يوما بعد آخر، أن التطورات التي حققتها البشرية في منظومة الحكم انحصرت بالشكل ولم تعالج الجوهر. والإمبراطور القديم استبدل بالرئيس المنتخب والملك المعين في الدولة المعاصرة، مع تعديلات طفيفة على الصلاحيات المرتبطة بالمنصب. وقد يشار هنا إلى «القانون» للتعبير عن تطور المسار البشري، وأنه مرجعية للحاكم والمحكومين، ولكن الدولة الحديثة تغولت حتى سحقت الفرد الذي أصبح أكثر عجزا عن أحداث تغيير سلمي في مسارها. ومع تطور أساليب التضليل والتشويش أصبحت «الدولة» قادرة على تمرير سياساتها حتى لو اعترض الشعب عليها. فقد تم تفكيك الشعوب وتهميشها. ونجح النظام الرأسمالي في تضخيم الذات الفردية ليس بدافع احترام الإنسان وضمان حقوقه، بل لتذويب العمل الجماعي لكي لا يكون له أثر كبير على منظومة الحكم، أيا كان شكلها.  وتعتبر النقابات إحدى مؤشرات التطور لحفظ الحقوق العمالية، ولكن هذه النقابات تراجع دورها في المجتمع الرأسمالي الذي يشجع الفرد على الاهتمام بنفسه والابتعاد عن الآخرين، وبذلك ضعف العمل النقابي كثيرا.

 

وهناك ثلاث قيم أساسية غابت عن الأمم السالفة كما هي غائبة عن المجتمعات الحاضرة: الله والحق والحقيقة. وقد غاب مفهوم «الحق» عن المجتمع الإنساني منذ قرون. وبعد أن كان هذا «الحق» مطلقا في المشروع الديني، أصبح في ظل ما يسمى «التطور البشري» نسبيا، وليس قيمة مطلقة. فحقوق الأفراد التي تنص عليها المواثيق الدولية ليست مضمونة، وكثيرا ما تم إخضاعها لـ «الذوق» و «المصلحة القومية» وترك تطبيقها للحاكم الذي لا يسمح لأحد بمشاركته. فالحق عمليا أصبح يعني ما تجود به يدا الحاكم، وما سوى ذلك فليس من الحقوق الطبيعية للأفراد أو الجماعات. واعتقد الكثيرون أن إطلاق مفهوم «حقوق الإنسان» سيكون شاملا لكافة حقوق البشر، بنصوص دولية ومنظمات حقوقية مرموقة. ولكن الواقع يؤكد غير ذلك، فما تزال مفاهيم «حقوق الإنسان» نسبية، وما يزال التذرع بـ «الخصوصية الثقافية» سلاحا ضد احتضان القوانين الدولية التي تنظم ذلك. وفي بعض المجتمعات العربية فأن الحق هو ما يريده الحاكم، وليس ما يهفو له المواطن. فلا يحق مخاطبة الحاكم من قبل الأفراد بشكل مباشر، بل عبر وساطات غير فاعلة. وبعضها لا يسمح بالعمل الجماعي، بل أن سلطة «الدولة الحديثة» حالت دون قيام منظومة مستقلة ذات سيادة على قرارها أو قدرة على تفعيل منظوراتها الإنسانية. وقد يبدو عداء هذه الأنظمة للبديل الإسلامي مقنعا للبعض، ولكن العداء إنما هو لكافة الطروحات الإيديولوجية الساعية للجم سلطات الحاكم، وإخضاعه للقانون العام، الأمر الذي لا يزال بعيدا عن الواقع، حتى مع الدول التي قد لا تتعرض لسخط خارجي. وفي العالمين العربي والإسلامي أصبح «الحق الفردي» خارج إطار التفكير الرسمي، واستبدل ذلك في مواقع كثيرة بمبدأ «العطاء» من الحاكم. فالحق هو ما يراه الحاكم وما يريد، وليس ما يطلبه المواطن المغلوب على أمره. إن هذا سياسة ضمنية مفادها أن الحاكم هو المصدر الأول والأخير لتحديد المفاهيم وتطبيقها، وليس أية جهة أخرى.

 

أما الحقيقة فهي الأخرى لم تعد خدمتها هدفا للدولة الحديثة، إلا بقدر ما يخدم الدعاية ويروج للمنظومة السياسية للدولة. لقد تطورت أساليب التضليل الإعلامي حتى لم يعد بإمكان الإنسان العادي معرفة الحقيقة إلا بشكل نسبي. ويمكن القول إن تطور وسائل التواصل الاجتماعي عمق الجهل، بدلا من توسيع المعرفة والعلم. ويوما بعد آخر تتلاشى آفاق الثقافة والمعرفة لدى جيل «الهاتف الذكي» بعد أن اختصرت المعرفة ببضعة سطور وكثير من الصور الملهية والأخبار المسطحة. فوسائل الإعلام تملكها إمبراطورية كبيرة مرتبطة بالنظام السياسي الحاكم في البلدان، ولم تعد الحقيقة محترمة لذاتها بل أصبحت محكومة بقيود عديدة: سياسية وفكرية ومصلحية. وبالتالي غابت الحقيقة المطلقة ليحل محلها الإعلام المنحاز للأقوياء، والهدف إحكام السيطرة على تفكير الإنسان وتوجيهه وفق بوصلة الحكم أو ذوي المصالح المادية الكبرى خصوصا الشركات العالمية المتعددة الجنسية. فالحكومات الكبرى التي تكلف المختصين ببحث القضايا المهمة وتقديم تقارير حولها، تسعى لطمس الحقيقة وعدم إظهارها إلا بقدر ما يخدم مصلحة الحاكم. فما تزال واشنطن تتحفظ على 28 صفحة من تقرير أعدته لجنة مختصة حول تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر، خشية أن يؤدي كشف تلك الوثائق لتشنج العلاقات مع دول أخرى ذات صلة بما حدث. وما يزال التقرير البريطاني حول الحرب الانكلو – أمريكية على العراق، المعروف بتقرير «تشيلكوت» طي الكتمان برغم مرور سنوات على إعداده، لأن بعض حقائقه ترتبط بأفراد ما يزالون على قيد الحياة.  أليس ذلك مجافاة للحقيقة وحصارا لها؟

 

 البعد الثالث هو الله الذي هو العدل المطلق، وقد جاءت الأديان جميعا لتحقيق ذلك «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط». تلك هي رسالة السماء إلى الأرض، على ألسنة أنبياء الله بدون استثناء. وهناك ثلاثة أبعاد لذلك: أولها ان على من يرفع شعارات دينية أن يجعل إقامة العدل هدفه الأول، ثانيا: أن يستبطن الحديث عن «الدولة الإسلامية» أو «المشروع الإسلامي» أو «الإسلام السياسي» أو «حاكمية الإسلام» أو «الإسلام هو الحل» ذلك الهدف بشكل واضح وأكيد وبدون التباس أو تشوش، وأن لا تعني تلك الشعارات حصر الدين بتطبيق الحدود مع غياب العدل. ثالثا: أن يستوعب رافعو ذلك الشعار مستلزماته من الإيمان الراسخ وحسن الأداء، سلوكا وإدارة. رابعا: أن يكون هذا المشروع عالميا، يتجاوز الحدود القومية أو الدينية أو المذهبية، وأن لا يكون إقصائيا. خامسا: أن تكون للشعار خصوصيات وطنية مع الاحتفاظ بمشاعر الارتباط بالأمة والانتماء للإنسانية. هذا هو جوهر المشروع الإسلامي الذي دفع دعاته تكاليف باهضة في العقود الأربعة الأخيرة. ويمكن الإشارة هنا إلى جوانب ثلاثة ذات صلة: الأول أن هذا المشروع ما يزال حيا في نفوس الكثيرين خصوصا القابعين في سجون أنظمة الاستبداد. الثاني: أن بريق المشروع تراجعت شعبيته كثيرا، خصوصا في ضوء تجارب «الإسلاميين» في الحكم.  الثالث: أن جبهة أهل هذا المشروع بدأت تتصدع من داخلها، ودبت الخلافات في أوساطها. هذا التراجع ربما يؤشر لانتهاء حقبة ما سمي «الصحوة الإسلامية». يصدق هذا الادعاء على كافة جبهات المشروع، السنية والشيعية. فما عاد الحماس للبديل الإسلامي متجسدا كما كان، سواء في إيران أم العراق، أو على صعيد تيار الإخوان المسلمين. ويمثل ما نسب لفضيلة الشيخ راشد الغنوشي من كلام وجهه للتنظيم العالمي للاخوان خلال انعقاد مؤتمره الاخير بتركيا، مثالا حيا على تصدع جبهة الاسلام السياسي. وبعيدا عن دقة الكلام المنسوب للغنوشي، فأن محتواه يمثل الواقع الذي تعيشه تجربة «الإسلام السياسي» بعد سلسلة من الإخفاقات الناجمة عن ضعف الأداء الذاتي لمجموعاته في العراق واليمن وتونس ومصر والمغرب والسودان. فقد توفي المرحوم الدكتور حسن الترابي، أحد منظري التيار، وفي قلبه غصة لما آل إليه وضع الحركة التي ترأسها أكثر من نصف قرن. وها هو الدكتور محمد بديع يرزح في سجون النظام العسكري المصري بدون أن يثير ذلك ردود فعل تتناسب مع حجم التنظيم الذي يديره. وتحتضن سجون البحرين قيادات المشروع الإسلامي منذ خمسة أعوام بدون أن يدعو «الديمقراطيون» الغربيون لإطلاق سراحهم.

 

وبرغم محاولات التخفيف من أهميتها، فان الكلمات المنسوبة للشيخ الغنوشي تعكس الكثير من الأمور. فهي تعبير عن شعور بالإحباط لدى بعض منظري تيار الإسلام السياسي. وحين يقترح الشيخ أن حركة النهضة ستتحول إلى حزب سياسي ويترك جانب الدعوة لغيره، فأنه استسلام لواقع مر يفرض نفسه بدعم قوى الثورة المضادة الهادفة لإلغاء المشروع جملة وتفصيلا. وحين يسعى الرموز لترك المشروع الذي نموا وترعرعوا في كنفه وقادوه في فترة من حياتهم فأن ذلك مؤشر سلبي جدا. هذا ما حدث في العراق قبل عشرة أعوام حين أعلن الدكتور إبراهيم الجعفري، وزير الخارجية الحالي، انفصاله عن حزب الدعوة الإسلامية الذي كان أحد قادته، ليؤسس تنظيما آخر. وحين ينسحب عدد من رموز الإخوان المصريين عن التنظيم في ذروة صعوده السياسي، مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فان ذلك مؤشر على تراجع التنظيم. وكذلك الأمر حين يكون في البلد الواحد أكثر من تيار محسوب على الإخوان، في مصر والجزائر ومصر. في التسعينات أعلن عدد من كوادر النهضة تجميد نشاطهم أو انسحابهم من التنظيم مثل عبد الفتاح مورو، ومحمد الهاشمي الحامدي في 1999. والآن جاءت تصريحات الشيخ الغنوشي لتعمق الشعور بأزمة أكبر تنظيم سياسي إسلامي في العالم العربي. أهو خريف الإسلام السياسي؟ هل يمكن إعلان انتصار قوى الثورة المضادة ضد مشاريع التغيير في العالم العربي؟ أم أن السلطة السياسية مقبرة لمشروع «الإسلام هو الحل»؟ تساؤلات تستحق التأمل لأن الحركة الإسلامية المعتدلة أصبحت تواجه استحقاقات ما بعد ثورات الربيع العربي الذي تسابقت لقطف ثماره ربما في غير وقتها، وأن تفرض أجندتها مع بقاء أعمدة الأنظمة السابقة التي سرعان ما انقضت وعادت إلى الحكم من الشباك بعد أن طردت من الباب. والحقيقة أن الإسلام السياسي يدفع ثمار قبوله بنصف ثورة.

 

صحيفة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/05/25

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد