آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

التاريخ مصدر للفهم والتخطيط… وكذلك للفتنة

 

د. سعيد الشهابي ..

يخطيء من يظن أن التاريخ ليس سوى كلام تحتويه المخطوطات البالية فحسب، أو أنه مادة للدراسات الأكاديمية التي تجرى في المكتبات ودور العلم، أو أن الاهتمام به محصور باستنباط العبر. ومن يتابع حركة السياسات العالمية وتوجهاتها ومنطلقاتها يدرك بوضوح أن التاريخ أحد عناصر تشكيل تلك السياسة، بل ربما كان في بعض المحطات، العامل الأهم في توجيهها. فليس هناك أمة أو شعب بدون تاريخ خاص أو مشترك مع الآخرين.

 

السياسيون الذين يريدون أن يتظاهروا بالموضوعية والعقل يدعون بأنهم قد «تحرروا من عقد التاريخ»، أو أنهم كسروا قيوده وتمردوا عليه. والعلماء يدعون أنهم استوعبوه وحققوه ووثقوا وقائعه، وغربلوه ليفصلوا الحقيقة عن الوهم.

وتارة ما يتظاهر ذوو التوجهات الليبرالية بأن مواقفهم وتصرفاتهم وسياساتهم إنما يستوحونها من الواقع ولا يسمحون للتاريخ بالتأثير عليها. وما أجمل القول بأن من الضرورة بمكان أن يبدأ الإنسان تجربته من حيث انتهى الآخرون، أي أن يسمح لحركة التاريخ بالاستمرار وأن تكون حركة الإنسان عامل إضافة وإثراء لتلك الحركة وليس تكرارا لها. وكثيرا ما يقال إن التاريخ يحفل بالغث والسمين، ويحتوي ما هو حقيقة وقع في الماضي وما هو مدسوس في صفحاته بدوافع سياسية أم غيرها. ولكن ما حقيقة الأمر في ما يتعلق بدور التاريخ في صياغة الحاضر والمستقبل؟ وهل حقا يستطيع الإنسان أن ينطلق على أرضية الحياد والموضوعية؟ وهل يسمح للعقل حقا أن يوجه مواقف الأفراد والأمم بعيدا عن ترسبات الماضي وآثاره التي تركها على المسار العام للشعوب والأمم والأفراد؟ ولتوضيح أهمية التاريخ في صياغة المسار البشري تكفي الإشارة إلى مدى حضور اسم «عيسى» في العالم المسيحي، و»محمد» في عالم المسلمين.

 

أوليس ذلك استدعاء متواصلا للتاريخ؟ الأمر المؤكد أن فكرة ذلك الاستدعاء ليست سلبية في الأساس، وإنما السلبي استخدامه أداة للعودة للماضي وتجاهل الانجازات والتطورات التي حدثت في الحقب التالية. كما أن السلبي أيضا استدعاء وقائع ذلك التاريخ خارج ظروفها وأطرها، الأمر الذي يجعل التخندق وراءها عودة للماضي بدون عقل أو منطق.

 

بضع قضايا يجدر ذكرها لتوضيح الأفكار المطروحة ضمن أطر العقل والمنطق. في الأسبوع الماضي اتضح أن مشجعي كرة القدم البريطانيين مصممون على حضور مباريات الدوري الأوروبي هذا العام وهم يرتدون الأزياء الصليبية. ومن شأن ذلك استفزاز مشاعر المسلمين الذين تمثل الحروب الصليبية في وجدانهم عدوانا عليهم باسم الدين. ويرى المسلمون في الحروب الصليبية أنها كانت حروبا استعمارية، وتتلخص بأنها دموية، إقصائية بالإضافة لكونهم يرونها حروبا استغلالية انتهازية سعى قادتها من الفرنجة إلى تطويع إيمان البسطاء للسيطرة على ثروات ومقدرات الشرق. ويستخدم المصطلح اليوم لوصم جماعات أو تحركات بأنها ذات دوافع عقائدية وأهداف استغلالية، أو للحصول على شرعية دينية لمواجهتها؛ وذلك بربطها بالذكرى المشتركة القاتمة لدى الشرق لحروب الفرنجة، فقد استخدم المصطلح من قبل معمر القذافي لوصف عمليات حلف الناتو في ليبيا عام 2011 متهما الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بشن «حرب صليبية جديدة» في أفريقيا وقائلا «نحن بوابة أفريقيا ترس أفريقيا درع أفريقيا. أفريقيا كلها وراءنا ومعنا وتدافع عن الأمة الإسلامية وتدافع عن الإسلام أمام حملة صليبية أعلنها رئيس فرنسا بنفسه». أنه استدعاء للتاريخ كلما اقتضت حاجة المسلمين لذلك الاستدعاء. وبرغم مرور ثمانية قرون على تلك الحروب إلا أنها حاضرة في الثقافة والسجال الديني والفكري والسياسي لدى الطرفين. هذا مع الاعتراف بصعوبة تجاهل التاريخ حين يحمل قصصا مروعة عن الاحتلال والهيمنة والإهانة والاستعباد. فالأفريقي لا يستطيع التعامل مع الغربي بدون استحضار تاريخ العبودية والرق والعنصرية، وهو أحد الفصول السوداء في التاريخ البشري.

 

المثال الآخر الذي يكشف حضور الماضي في سياسة الحاضر موقف الغرب من تركيا. فالغربيون يصرون على استدعاء وقائع حدثت قبل أكثر من قرن لخدمة موقفهم السياسي إزاء تركيا. هذه الوقائع تغيب تماما حين يسعى الغربيون للاستفادة من الإمكانات التركية، كتشجيع تركيا على المشاركة في ما يسمى «الحرب على داعش» أو السعي للتوصل لاتفاق مع أنقرة بشأن اللاجئين الذين يتوجهون إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، أو استخدام إمكاناتها العسكرية وقواعدها لشن الحروب في العالم العربي، ومنها قاعدة «انجيليك».

 

فتارة تكون تركيا هي «الحليف الاستراتيجي» للغرب، كونها عضوا بحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتارة يطرح عكس ذلك. فهي «دولة مسلمة» لا يسمح لها بدخول النادي المسيحي (الاتحاد الأوروبي)، ولتبرير ذلك تطرح شروط تعجيزية ويستدعى التاريخ بشكل متكرر لمطالبة تركيا بالاعتذار عما يسميه الغرب «مذابح الأرمن». وفي الأسبوع الماضي سحبت تركيا سفيرها من ألمانيا بعد أن أقر البرلمان الألماني قرارا يعتبر تلك الحوادث التي وقعت في 1915 «إبادة». هذا برغم أن الغرب لم يفعل شيئا لوقف ذلك، حتى عندما كان السفير الأمريكي في أنقرة يطلع حكومته على ما كان يحدث.

 

الأمر الواضح أن استدعاء ذلك التاريخ بشكل شبه يومي يهدف لرفض الطلب التركي المتواصل منذ أكثر من عشرين عاما، للانضمام للاتحاد الأوروبي، برغم عضويتها بحلف الناتو. وألمانيا التي تتصدر الدول المعارضة لعضوية تركيا هي نفسها التي اضطهدت اليهود بعد ربع قرن من حوادث الأرمن، وقتلت أعدادا كبيرة منهم. فماذا يعني التاريخ هنا؟ وكيف يفرض نفسه على يوميات السياسيين ومواقفهم وتحالفاتهم؟ فمن الضرورة بمكان الاستفادة من عبر التاريخ، ولكن إذا استغل لأهداف سياسية أصبح وبالا على الناس، وساهم في تصعيد الأزمات ومنع الحلول وتعميق الشروخ بين البشر. وحين يصبح ذلك التاريخ سجنا يتوقف مسار الإنسانية لأنها لا تستطيع الإفلات من الماضي بمصائبه وفجائعه.

 

ولعل التوظيف الأخطر لوقائع التاريخ ما يجري في أوساط المسلمين اليوم، خصوصا الفتنة المذهبية الطاحنة. فالقضية هنا ليست دينية، أي لا تتصل بالاختلافات الفقهية أو جوهر الانتماء المذهبي، بل بالاجترار المبتذل للتاريخ برغم ما يعتريه من تشويش وتلفيق. هذا التاريخ يعاني من إشكالات عديدة: أولها البعد الزمني عن الواقع الحالي، وثانيها: افتقاره للتوثيق والتحقيق العلمي المجرد من العواطف والشخصنة. وثالثها: غياب المصادر المستقلة التي دونت هذا التاريخ، وأغلب فصوله كتبه الحكام لخدمة أغراضهم.

 

إن اجترار حوادث التاريخ التي لم تخضع للتحقيق الموضوعي العلمي، يحوله من وسيلة ايجابية للبناء وشحذ همم الأجيال للنهوض على خطى الأوائل إلى عامل هدم وتثبيط وربما تعصب وبغضاء. هذا الأمر قد يؤدي للاحتراب غير المشروع باستخدام الدين وسيلة لإضفاء الشرعية على حروب غير مشروعة لأنها مؤسسة على وقائع تاريخية غير مثبتة. في مثل هذه الظروف يتم تغييب العقل، فيتم التشبث بنصوص غير محققة ويتم تحميلها ما لا تحتمل. أيا كان الأمر يتفق العقلاء على أن الصراع الذي يمزق جسد الأمة ليس مرتبطا بالعقيدة أو الفقه، بل بالسياسة التي ليس لها دين أو مذهب أو أخلاق. فحين يلتقي علماء الأمة، حتى في هذه الأيام الحالكة، يتبادلون المشاعر الايجابية المشتركة ولا يروجون لقضايا الاختلاف الفقهي التي يمكن اعتبارها تجسيدا للتعدد وحرية المعتقد والفكر. هذا لا يعني عدم جدوى قراءة التاريخ، خصوصا إذا كان بهدف المعرفة والعبرة والاقتداء بالصالحين، ولكن اجتراره بأساليب مجتزأة وتحميله غير ما يحتمل، فذلك أمر لا ينسجم مع العقل والمنطق. فالوقائع لا يمكن قراءتها بشكل كامل بدون قراءة ظروفها الزمانية والمكانية من جهة، بالإضافة لقراءة الطبائع والأمزجة من جهة أخرى. وهناك طرفان أساسيان لهذا التاريخ: صانعوه وقارئوه، ولكل منهم صفاته وأبعاده التي لا يمكن ترحيلها عبر الزمان والمكان أو استنساخها في ظروف تفصلها القرون من الزمان والمسافات الشاسعة.

 

لقد تحول التاريخ إلى أحدى أدوات السياسة في عالم اليوم، خصوصا في غياب حكم القانون وتداعي التزام الساسة وأصحاب القرار بالقيم والمبادئ والأخلاق. فالسياسي أو الناشط أو المفكر الذي يسعى لإسقاط التاريخ المبتور على واقعه إنما هو انتهازي بعيد عن الموضوعية والواقع، ولا يؤدي هدفا نبيلا سواء للبشرية أم للأمة أو للفئة. التاريخ مصدر الهام ومدرسة للمتعلمين، ومنبع علم لا ينضب، ولكن بشروط: عدم تقديسه أو إسقاطه بشكل أعمى على الواقع أو اعتباره أداة لضرب الآخرين، أو الخضوع لاملاءاته ما لم تعرض على مرجعيات أهم، كالقرآن والسنة النبوية عند المسلمين. فما يحتويه إنما هو اجتهادات البشر التي لا تخلو من الخطأ ولا يمكن اعتبارها مرجعية إلا بقدر التزام أصحابها بمبادئهم. والحقيقة التي يحتويها ذلك التاريخ نسبية وليست مطلقة، ومحكومة بظروفها الزمانية والمكانية، ومرتبطة بأفراد أو جماعات محكومين بمنطق الصواب والخطأ. وفي الوقت الحاضر أصبح واضحا أن التاريخ يستخدم كسلاح في معركة كسب النفوذ بأية وسيلة مهما كانت دنيئة. وتوخي الحذر هو الأسلوب الأسلم حين يسعى البعض لإسقاط التاريخ على الواقع أو يستخدمه لاستشراف المستقبل. التاريخ مكمل لحياة البشر خصوصا من يتطلع منهم لتجاوز هفوات الماضي وعقده، ولكن من الضرورة بمكان قراءته بموضوعية وتجرد، وتنقيحه من التزوير، وتحقيق وقائعه وفق المحددات العلمية، وأن تكون القراءة شاملة تستحضر طبائع الناس على اختلاف أمزجتهم وانتماءاتهم ومدى استقامة سلوكهم وشخوصهم.

القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/06/08