آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ظروف الثورة والتغيير تتجدد في الشرق الأوسط

 

د. سعيد الشهابي ..

الشعوب العربية مستمرة في دفع فاتورة الثورة في عالم يرفض التغيير ويصر على استمرار أوضاعه الراهنة. ابتداء من ليبيا مرورا بمصر وسوريا واليمن وصولا إلى البحرين تتواصل معاناة الذين ملأوا شوارع العواصم صخبا بهتافاتهم المدوية التي لم تبق إلا أصداء خافتة منها. يومها كانت تلك الهتافات تعبيرا عن قلب عربي نابض، يتطلع إلى الحرية والكرامة والتحرر من القيدين الأساسيين اللذين التفا حول عنق شعوبها منذ سبعة عقود تقريبا: الاستبداد والاحتلال. تلك الثورات كشفت المستور من الأوضاع المزرية في منطقة تتوسط العالم وتربط القارات وتختزن أكبر احتياطي من النفط. لكنها بالإضافة للاحتلال الذي تجاوزت آثاره أرض فلسطين، تنوء بأعباء الهيمنة الغربية التي تواصلت بعد انتهاء حقبة الاستعمار والوصاية والحماية.

 

ففي الوقت الذي كانت الهند تنزع فيه لباس الاستعمار البريطاني وتتحول إلى أكبر ديمقراطية في العالم، كان العالم العربي يخلع لباس الاستعمار، ليس لكي يتحرر بل ليعيش مأساة احتلال لأقدس أراضيه وهيمنة انكلو ـ أمريكية على كافة أراضيه، وأنظمة حكم مستبدة هيمنت على أغلب شعوبه. كانت الشعوب العربية، وما تزال، ممنوعة من التعبير عن آلامها المبرحة الناجمة عن تلك الظواهر التي تخلصت دول العالم منها. وحينما استفاقت في لحظة تاريخية نادرة وعبرت عن آلامها وآمالها تعرضت لأبشع أساليب القمع وأكثرها توحشا. وما ظاهرة الإرهاب التي تجاوزت في قسوتها أية معاملة سابقة، إلا واحد من العقوبات التي تتعرض لها بسبب تمردها على السعي لكسر جدار الصمت المفروض عليها منذ الحرب العالمية الثانية. وبعد كل حرب مع العدو، أيا كانت نتائجها، يتضاعف هذا العقاب ويزداد توحش الاستبداد. فليس مسموحا لهذه الأمة أن تعبر عن حزنها حين تهزم جيوشها في الحروب مع الكيان الإسرائيلي. عوقبت مصر بفرض حكم عسكري فاق في توحشه ما سبقه من أنظمة، وعوقبت ليبيا بالتفتيت والإرهاب، وعوقبت سوريا بحمامات دماء لا تنضب، وعوقب اليمن بحرب كادت حوادثها تعصف بالأمم المتحدة، المنظمة الكبرى في التاريخ العالمي المعاصر. والعقوبات المفروضة على الشعوب التي ثارت تشترك فيها قوى الثورة المضادة التي ما برحت تكثف العقوبات عليها بالقمع السلطوي تارة والإرهاب والطائفية والتفتيت والخداع. وللمرة الأولى يلعب كيان الاحتلال الإسرائيلي دورا محوريا في تخطيط سياسات القمع وأساليبه، وإعادة تشكيل العقل العربي بعيدا عن القيم التي التزم بها كالحرية والاستقلال ورفض التبعية والتقسيم. هذا العقل تمرد على محاولات تحجيم الأمة بتفتيتها وفق خطوط التمايز العرقي أو الديني أو المذهبي. لكنه في مرحلة «الثورة المضادة» انقلب على نفسه وألغى ثوابته واستسلم للأمر الواقع واختار الخروج عن مساره في إجازة غير محددة الأمد.

 

ومن بين الشعوب التي يستمر دفعها فاتورة «التمرد» على الوضع القائم، شعب البحرين الذي تتواصل معاناته منذ أكثر من خمسة أعوام. وما الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها حكومته إلا مؤشر لعمق رفض التغيير، ليس من قبل الحكام فحسب، بل من قبل تحالف قوى الثورة المضادة. فعندما انطلقت ثورة شعبها في الرابع عشر من شباط/فبراير من العام 2011، أي في ذروة الربيع العربي، كان عالم العرب يعيش مناخا مفعما بالأمل والتطلع للحرية، ومؤسسا على ثوابت إنسانية ودينية وأخلاقية وسياسية. خرجت الجماهير مطالبة بالإصلاح والتغيير للمساهمة في إنهاء الحقبة السوداء التي خيمت على المنطقة سبعين عاما. فلم يكن للتطرف أو العنف أو الطائفية أو الاستعانة بالأجنبي مكان في أجندة المشاركين فيها، تماما كبقية ثورات الربيع العربي. ونظرا لأن تلك الظاهرة فاجأت الجهات التي تعتقد أنها المتضرر الأكبر من تلك الحراكات الشعبية لم تكن قادرة على اتخاذ موقف حاسم إزاءها، فقدمت بعض التنازلات أملا في إطفاء لهيبها بانتظار مشروع مضاد كان قيد الأعداد.

 

وما هي إلا بضعة أسابيع حتى وضع مشروع الثورة المضادة موضع التنفيذ ليوصل الوضع إلى ما يعيشه عالمنا العربي اليوم. تعرضت ثورة البحرين كغيرها للقمع بكافة الأساليب، خصوصا بعد تدخل قوات من الدول المجاورة لدعم النظام ومنع التغيير. فأعيد فتح السجون حتى اكتظت بساكنيها. ويقدر عدد السجناء السياسيين في هذا البلد الصغير بأكثر من 4000، أغلبهم محكوم أما بالإعدام أو السجن المؤبد أو فترات تصل إلى خمسة عشر عاما أو سحب الجنسية والإبعاد. وتوازى مع سياسة القمع مشاريع ثلاثة ذات أهمية في توجيه الأمور لاحقا: أمني بمساعدة بريطانية مباشرة أدى لانتهاكات تحدث عنها الأسبوع الماضي المفوض السامي لحقوق الإنسان في كلمته الافتتاحية للدورة الثانية والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان، وإعلامي تشارك فيه وسائل إعلام قوى الثورة المضادة، وحملة علاقات عامة استخدمت فيها الشركات الغربية على نطاق واسع. أما الجانب السياسي فقد تكفلت به الحكومة البريطانية التي تصدت للمنظمات الدولية ومارست دبلوماسية فاعلة منعت صدور مواقف دولية مؤثرة خصوصا من قبل دول الاتحاد الأوروبي.

 

الملاحظ أن كافة الوسائل المذكورة لم تؤد لوقف الحراك الشعبي في البحرين الذي استمر بشكل يومي على كافة الأصعدة: الميدانية والحقوقية والإعلامية. وكان من أولى محاولات احتواء الآثار الإعلامية لسياسات القمع، تشجيع حكومة البحرين على السماح بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة الاخصائي بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، الدكتور شريف بسيوني. وبعد زيارات ميدانية في صيف العام 2011 أصدرت «اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق» تقريرها وقدمته لملك البحرين في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، واشتمل التقرير على وصف دقيق اتسم بقدر من الموضوعية بالإضافة لـ 26 توصية.

 

أكد ذلك التقرير الذي دفعت الحكومة تكاليف أعداده كلها حدوث مخالفات وانتهاكات لحقوق الإنسان مؤكدا وجود ما اسماه «تعذيب ممنهج» واعتقال تعسفي وتمييز بين المواطنين. وربما الأهم أن التقرير أكد عدم وجود صلة لإيران بما جرى. كان حلفاء الحكم يأملون أن يؤدي ذلك التقرير إلى صيغ سياسية وحقوقية توافقية بين الحكم والشعب. ولكن بعد خمس سنوات على صدوره أدرك هؤلاء الحلفاء أن ذلك لم يحدث وأن الوضع يزداد توترا. فاستدعي راعي التقرير، الدكتور بسيوني للبحرين الشهر الماضي والتقى المسؤولين، ثم اصدر على موقعه الشخصي إفادة بان عشرا من التوصيات فقط قد تم تنفيذها، الأمر الذي أعاد السجال حول مدى أمكان تنفيذ بقية التوصيات.

 

من هنا ليس معلوما دوافع الحكم لشن حملة أمنية مكثفة في الأسبوعين الأخيرين فاجأت الكثيرين الذين كانوا يعتقدون أن الأمر قد استتب للحكم وان الثورة قد قضي عليها تماما. وكان لزيارة وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، للمنامة في نيسان/أبريل اثر مباشر على التطورات اللاحقة، لأن واشنطن تعرضت لضغوط داخلية وخارجية لتحريك مسارات الحل. فنجم عن زيارته وعد رسمي بإطلاق الناشطة زينب الخواجة التي كانت معتقلة مع رضيعها. ولكن اتضح الآن أن الإفراج عنها كان مشروطا بمغادرتها البلاد إلى الدنمارك التي كانت تعيشها فيها مع والدها السجين، الحقوق الدولي المعروف عبد الهادي الخواجة. وبعد إبعادها اعتقل الناشط الحقوقي الآخر، نبيل رجب. و سبق ذلك تغليظ حكم السجن بحق زعيم اكبر جمعية سياسية في البلاد، الشيخ علي سلمان، من أربع إلى تسع سنوات. ولكن التطور الأخطر حدث الأسبوع الماضي، فقد صدر قرار قضائي بحل جمعية الوفاق التي كان سلمان يرأسها، وجمعيتين دينيتين أخريين: جمعية التوعية الإسلامية وجمعية الرسالة. كما صدرت قرارات عن وزارة الداخلية بمنع علماء الدين من العمل السياسي، ثم منع بعضهم من أداء صلاة الجمعة. فكانت ردة الفعل قرار علماء الدين بالتوقف تماما عن صلاة الجمعة، الأمر الذي سيكون عاملا في إعادة تحريك الشارع البحراني. وفي الوقت نفسه وجه المعارضون انتقادات شديدة للحكم إزاء قضايا عديدة من بينها التجنيس السياسي واستقدام قوات من الخارج لقمع الحراك الشعبي، واستدعاء الحماية البريطانية مجددا، ثم تحمل تكاليف بناء قاعدة بحرية بريطانية في المنامة، وبرغم اتهام المعارضة باستلام دعم من الخارج (وبالتحديد من إيران) ومحاولة توجيه الوضع السياسي على خلفية الاستقطابات المذهبية والطائفية التي اصطنعتها قوى الثورة المضادة، لم يؤد ذلك لإضعاف المعارضة أو إنهاء الحراك الشعبي الذي لم يتوقف يوما منذ انطلاقه قبل أكثر من خمسة أعوام. وهذا يعني أنه برغم تباين ظروف الدول التي شهدت في العام 2011 ثورات شعبية، واختلاف ما آلت إليه أوضاع كل منها، إلا أن هناك سمة مشتركة بأن أوضاعها غير مستقرة وأن ذلك ينطوي على احتمال يقوى يوميا بتجدد الثورة بعنفوان أكبر مما حدث سابقا. فما لم تحدث مصالحات جادة على مستويات عديدة تؤدي للتغيير فسيظل شبح الثورة والتغيير ماثلا في الأفق السياسي، وستزداد احتمالات المواجهة بين الشعوب وقوى الثورة المضادة. أنه تأكيد لعجز الحكام عن إصلاح أوضاع بلدانهم من جهة، وفشل الغرب الذي يسعى لاستمرار نفوذه في المنطقة في دفع الأمور باتجاه تسويات حقيقية تمنع الاحتقان السياسي الذي أدى إلى التوتر والتطرف والعنف والإرهاب، وأصبح يهدد أمن العالم واستقراره. وما البحرين إلا بؤرة أخرى من بؤر التوتر وحلقة في مسلسل الاضطراب الذي قد يضعف المنطقة ولكنه سيؤدي في نهاية المطاف لكسر الوضع المزري الذي استمر سبعة عقود. فهل هذا ما يريده الغربيون؟

 

٭ كاتب بحريني

أضيف بتاريخ :2016/06/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد