آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

بريطانيا أمام استحقاقات ما بعد أوروبا

 

د. سعيد الشهابي ..

تساؤلات كثيرة حول مستقبل بريطانيا بعد قرار شعبها الخروج من الاتحاد الأوروبي. إنها استفسارات مشروعة، ولكن الإجابة عليها تستدعي الاطلاع على ظروف الاستفتاء والواقع البريطاني، وكيف أن المؤسسة البريطانية وضعت نفسها في مأزق الخروج بعد 43 عاما من التجربة التي لم تكن في مجملها سلبية. فعلاقة الجزر البريطانية بالقارة الأوروبية تغيرت تماما منذ صباح الخميس الرابع والعشرين من شهر حزيران/يونيو 2016 عندما أعلنت نتائج ذلك الاستفتاء مؤكدة أن 52 بالمائة من شعبها أقر الانفصال. ولا تقتصر النتائج على مبدأ الخروج بل أن تداعياته ستطال المؤسسة الحاكمة بشكل كبير، وقد بدأ ذلك بإعلان السيد ديفيد كاميرون عزمه على التنحي عن رئاسة الوزراء بعد انتخاب رئيس آخر لحزب المحافظين في مؤتمره السنوي في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل. واتضح كذلك أن الثقل السياسي الذي تبلور وراء الدعوة للبقاء لم يستطع أن يغير واقع المزاج البريطاني كثيرا، وأن مناشدات الرئيس أوباما الشخصية وزعماء الدول الأوربية الكبرى لم تثن المواطنين عن التعبير عن رغبتهم الحقيقية في الخروج. ومن المؤكد أن الشعار الذي ردده كاميرون بأن بريطانيا ستكون «أقوى في أوروبا» كان ايجابيا، ولكن الرأي العام كان له رأي مخالف. ومن المفارقات أن الشعب الاسكتلاندي الذي صوت على البقاء جزءا من «المملكة المتحدة» صوت بنسبة أعلى من غيره للبقاء في أوروبا، الأمر الذي يستدعي المزيد من التقصي لمعرفة ما يدور في نفوس المواطنين. والأرجح أن يعاد الاستفتاء الاسكتلاندي مجددا، الأمر الذي يندر بتفتت المملكة المتحدة.

الإعلام كان منحازا بشكل واضح للبقاء، ولكنه لم يؤثر كثيرا على نتيجة الاستفتاء.

فقد كان هناك مزاج جديد غير مسبوق يعم السكان بضرورة إعادة النظر في العلاقة مع أوروبا. وبرغم أن العامل الأكثر طرحا لهذا التغير يتمثل بتصاعد ظاهرة الهجرة، إلا أن من الضرورة بمكان سبر أغوار التغيرات النفسية والمزاجية لدى المواطنين العاديين للتعرف على الدوافع الحقيقية وراء القرار غير المسبوق بالانفصال. ولكي تتضح الصورة يمكن التدليل بالصعود المفاجىء للسيد جيريمي كوربين إلى رئاسة حزب العمال، وهو أمر لم يكن متوقعا، لأنه يعتبر، من وجهة نظر المؤسسة البريطانية، متطرفا وغير واقعي وبعيدا عن المزاج العام. فماذا تعني هذه التغيرات؟ الأمر المؤكد أن هناك فجوة كبرى بين الطبقة الحاكمة التي تعيش مستويات من الترف والبذخ والمواطنين العاديين الذين يزدادون فقرا. ففي شهر آذار/مارس الماضي قالت «مؤسسة السوق الاجتماعي»، أن العقد الماضي جعل الأغنياء يزدادون ثراء بنسبة 64 بالمائة والفقراء يزدادون فقرا بنسبة 57 بالمائة.

 

هذا التغير في المستوى المعيشي لغالبية الشعب البريطاني عامل أساس في تغير المزاج الشعبي تجاه المؤسسة الحاكمة التي تسعى لإلقاء اللوم على ظاهرة الهجرة بدلا من السياسات الرأسمالية والامبريالية التي ما تزال تحرك الساسة البريطانيين. ففي الوقت الذي تنتشر فيه ظاهرة الفقر يتواصل الإنفاق العسكري وتبنى القواعد العسكرية في الخارج، بينما تتواصل سياسات التقشف في الداخل. ويمكن القول إن الخسارة البريطانية هذه المرة لا تقل إيذاء عن خسارة «درة التاج البريطاني» باستقلال الهند في 1948. وما محاولات بريطانيا العودة مجددا للمناطق الواقعة شرقي السويس التي انسحبت منها في 1971 إلا تعبير عن البحث المستمر عن دور دولي خارج الحدود يوفر لما كان يسمى «الإمبراطورية العجوز» دورا مرموقا على المسرح العالمي. والواضح أن بريطانيا لم توفق حتى الآن لتحقيق ذلك الطموح، فقد تدخلت عسكريا في العراق، بقرار مثير للغط اتخذه رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، الأمر الذي أدى إلى أثار التساؤلات حول مدى ديمقراطية ذلك القرار. ويتردد في وسائل الإعلام أن بلير قد يقدم للقضاء بعد صدور تقرير «تشيلكوت» حول حرب العراق، بتهمة «خداع البرلمان» البرلمان وان قرار المشاركة مع أمريكا في الحرب على العراق قد اتخذ قبل تصويت البرلمان عليه. وقد سعت حكومة كاميرون لتحاشي الوقوع في مرمى الاتهام بارتكاب جرائم حرب في اليمن، بسبب دعمها السياسي والعسكري للتحالف الذي تقوده السعودية. أنها أمور مرعبة لبلد طالما قيل أنها «الديمقراطية الأعرق» في العالم. وقد سبق أن كشفت وسائل الإعلام ممارسات غير مناسبة من قبل بعض المسؤولين الكبار، باستلام هدايا ثمينة من أنظمة استبدادية في مقابل ما يقدمونه من دعم استخباراتي وامني وسياسي لها.

 

وهنا يجدر طرح الحقائق التالية لتوضيح صورة ما جرى: الأولى: أن الاستفتاء اجري بعد شهور من السجالات العقيمة التي أثارتها ظاهرة الهجرة التي أضافت خلال العام الماضي نصف مليون إنسان لسكان هذه الجزر.

 

الثانية: أن رئيس الوزراء أقدم على مغامرة غير محسوبة النتائج، معتقدا أن الشعب سوف يقر الاحتفاظ بعضوية الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن الأحزاب الرئيسية مع ذلك الاتجاه.

 

ثالثا: أن الرأي العام ربط بين الأوضاع المعيشية المتردية التي يعاني منها وعضوية الاتحاد الأوروبي. فبريطانيا تدفع اشتراكا سنويا للاتحاد يقدر بـ 13 مليار جنيه إسترليني، بينما ينفق الاتحاد أربعة مليارات ونصف المليار، أي أن المساهمة البريطانية تبلغ ثمانية مليارات ونصف المليار من الجنيهات. وعندما حاول كاميرون التفاوض مع الاتحاد حول مستوى المساهمة البريطانية والإنفاق على المهاجرين القادمين من أوروبا لم يحصل على ما كان يأمل به، الأمر الذي اضطره لطرح العضوية للاستفتاء.

 

الرابعة: أن سياسات حكومة المحافظين برئاسة ديفيد كاميرون سارت باتجاهات مغايرة للقيم التقليدية لدى البريطانيين خصوصا في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. فكثيرا ما سعت تلك الحكومة للتملص من القوانين الأوروبية التي تنظم هذه القيم، وحاولت القفز على قرارات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، الأمر الذي دفعها للوقوع أكثر في أحضان أنظمة الاستبداد بدون عوائد حقيقية.

 

خامسا: أن ما كان يسمى «العلاقة الخاصة» بين لندن وواشنطن هي الأخرى تعرضت لهزات عديدة بسبب التباين بين مزاجي أوباما وكاميرون، الأمر الذي تجسد في المواقف البريطانية الحالية إزاء قضايا منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.

 

سادسا: أن التفاهم الذي تم قبل عامين بين لندن وواشنطن حول إعادة رسم السياسات الإستراتيجية الانكلو ـ أمريكية في العالم والشرق الأوسط ساهم في توسيع الهوة مع أوروبا التي تعتبر أكثر تقدما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام حقوق الشعوب في تقرير مصائرها. فقد قررت الولايات المتحدة تغيير إستراتيجيتها العالمية بنقل ثقلها العسكري إلى منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادىء لمواجهة ما تعتبره واشنطن «التهديدات الصينية المتصاعدة»، وترك شؤون الخليج والعراق والشرق الأوسط تحت الرعاية البريطانية. وقد اتضح فشل حكومة كاميرون في تبني سياسات فاعلة لاحتواء أوضاع المنطقة، وبدلا من ذلك أصبحت طرفا في الصراعات المحلية، بتوفير الخبرات الأمنية والإستخباراتية للأنظمة القمعية والمشاركة العملية في حروب غير أخلاقية ارتكبت فيها جرائم حرب، واتهمت بريطانيا بدعم تلك الجهود التي لا تنسجم مع المواثيق الدولية التي تنظم الحروب.

 

الآن أصبح على بريطانيا أن تنفصل تدريجيا عن أوروبا. فهل يعني ذلك الاقتراب أكثر من الولايات المتحدة في إطار ما يسمى «العلاقات الخاصة»؟ وهل يستطيع الاقتصاد البريطاني استعادة عافيته بعد أن تداعت أسعار الجنيه الإسترليني وأوشكت الفقاعة الاقتصادية على الزوال؟ لا شك أن بريطانيا ما تزال دولة كبرى، ولكن حكوماتها في السنوات الأخيرة التزمت بسياسات أضعفت هيبتها الإقليمية والدولية. فالعديد من الدول الأوربية، خصوصا فرنسا، ترغب في خروج بريطانيا من الاتحاد لأسباب تاريخية وواقعية. بل أن الأقاليم التي تتألف منها المملكة المتحدة أصبحت أكثر ميلا للانفصال في ظل تغول الحكم المركزي وحرمان الأطراف من السلطة السياسية أو الإنفاق الاقتصادي المناسب.

 

فقبل عامين صوت الاسكتلانديون بنسبة 55 بالمائة لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة، و45 بالمائة كانت مع الانفصال. وفي ضوء نتائج الاستفتاء حول عضوية الاتحاد الأوربي، بدأت في الأفق بوادر تكرار الاستفتاء، خصوصا مع تشكل هوية اسكتلاندية وطنية، سواء عبر الحكومة المحلية أم من خلال كتلة النواب الاسكتلانديين ضمن الحزب الوطني الاسكتلاندي. ولن يتوقف مسلسل الانفصال عند هذه الحدود طالما بقيت مقومات الوحدة الحقيقية غائبة عن المسرح السياسي والضمير الوطني.

 

مستقبل بريطانيا لن يكون كماضيها. هذا ما أظهرته نتائج الاستفتاء التاريخي الذي أقر خروجها من الاتحاد الأوروبي. فعلاقاتها مع القارة ستتغير تدريجيا، ولن تستطيع أن تتحدث للعالم باسمها، كما أن تواصل شعوب الطرفين سيضمر تدريجيا. وبدلا من حل إشكالات الانتماء لأوروبا، فان نتائج التصويت زادت الموقف تشوشا حتى لدى الساسة الراغبين في الوصول إلى رئاسة الوزراء. وليس مستغربا تصاعد ظواهر العداء للآخر خصوصا أن قرار الانفصال ينسجم مع أجندات ذوي النزعات المتطرفة التي تتسم سياساتهم بالعنصرية تارة والإسلاموفوبيا ثانية والعنف ثالثة. ومن المؤكد أن استقالة كل من ديفيد كاميرون من رئاسة حزب المحافظين ستساهم في إعادة رسم المشهد السياسي البريطاني إلا أن الشعب هو الضمان الوحيد للسيطرة على نزعات الانفصال والتطرف. وتمرده هذه المرة على رغبات ساسته تأكيد على ضرورة البحث عن أرضية مشتركة لتوافقات وطنية تحول دون التطرف وتعيد بريطانيا إلى موقعها الطبيعي كجزء من أوروبا وكصديق للشعوب الأخرى يدعم التحول الديمقراطي ويرسخ احترام حقوق الإنسان، وكهوية سياسية جامعة لأقاليم متعددة، وبذلك تبعد شبح التفتت الذي يعيدها إلى عصور الاحتراب القبلي والمناطقي.

 

٭ كاتب بحريني

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/06/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد