قصة وحدث

استقلال البحرين "الحدث المغيّب"

خبيرـ(خاص).

إن انتفاضة شعب البحرين وثورته عام(١٩٥٤-١٩٥٦) بقيادة "هيئة الاتحاد الوطني" لم تكن وليدة لحظتها أو من قبيل الصدفة، فهي كانت امتداد للكثير من الاحتجاجات والتحركات ضد سلطات الاستعمار البريطاني منذ بدايات القرن الماضي، وفي المقابل لم تكن السلطات البريطانية تدخر جهداً في إحكام سيطرتها على هذا البلد من خلال اتخاذ الكثير من الإجراءات والتدابير السلطوية المختلفة، ففي عام 1906م تعهد الشيخ عيسى بعدم السماح لأية دولة أجنبية بتأسيس مكاتب للبريد والبرق في البحرين، ما عدا بريطانيا، كما تعهد عام 1911م بمنحها حق استغلال ثروات البحرين من اللؤلؤ والإسفنج والنفط، وبذلك قيدت بريطانيا الحاكم بتعهدات شملت قيوداً واضحة أحكمت بها قبضتها على البلاد بشكل واضح خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى.

 

وعندما تفاوضت "إنجلترا" مع الدولة "العثمانية" بشأن تصفية نفوذها وسيادتها على الخليج، أسفرت المفاوضات عن توقيع الاتفاق (الإنجليزي – العثماني)، وجاء في نص الاتفاق في القسم الثالث (مادة 13) ما مفاده "تخلي الدولة العثمانية عن جميع ادعاءاتها في البحرين واعترافها باستقلالها"، كما أعلنت "بريطانيا" بدورها بأنها لا تنوي ضم البحرين إلى ممتلكاتها، فبداواضحاً انفراد بريطانيا بالبحرين، سواء بنصوص المعاهدات أو بالواقع الفعلي.

 

 ونتيجة لتزايد النفوذ البريطاني في البحرين، وازدياد تدخل المعتمدين السياسيين الإنجليز وموظفيهم في شؤون البحرين الداخلية، خاصة في الشؤون القضائية، بدأ الشعور الوطني المناهض لذلك في النمو والازدياد، وقد عبر هذا الشعور عن نفسه عندما نشبت اضطرابات عام 1919م احتجاجاً على محاولة المعتمد السياسي البريطاني تطبيق بعض القوانين المدنية والجنائية المعمول بها في الهند على البحرين، حيث اجتمع أعيان البلاد، في شكل مجلس تأسيسي، والتقوا بالشيخ "عيسى بن علي آل خليفة" وقدموا له عدة مطالب كان على رأسها وقف التدخل البريطاني في شؤون البلاد، وتخويل المجلس التأسيسي حق انتخاب القضاة ورؤساء الإدارات التنفيذية، وإبعاد غير الوطنيين عن الوظائف الرسمية، وتنظيم شرطة وطنية، فضلاً عن إعداد لائحة الإصلاح الإداري تهدف إلى تحقيق حياة كريمة للمواطنين.

 

استجاب الشيخ "عيسى" لهذه المطالب ووعد بتنفيذها، بينما رفض المعتمد السياسي البريطاني ذلك وسعى للحيلولة دون تنفيذها، وازداد تفاقم الأمور بين الشيخ والمعتمد السياسي البريطاني "ديكسون Dikson" عندما أعلن الأخير أن جميع الرعايا "غير البحرينين" خاضعين للحماية البريطانية، وأن السلطات البريطانية في البحرين لها حق النظر والفصل في شؤونهم القضائية، الأمر الذي أثار استياء الشيخ وتبرمه بسياسة المعتمد، التي تنتقص من سلطاته، وظلت علاقته بديكسون تتدهور، حتى انتهت خدمته في البحرين وخلفه الميجور "ديلي Daly" عام 1921م.

 

لقد انطلقت شرارة الحراك في البلاد بعد المرسوم الذي أصدره الميجور "ديلي Daly” اتبع فيه سياسة مؤداها تحويل البلاد إلى محمية بريطانية من الناحية الفعلية، وذلك بموجب مرسوم أصدره عام 1922م، خولت بموجبه السلطات البريطانية إدارة الشرطة وأجهزة الحكومة وكافة إداراتها، فضلاً عن سن اللوائح والقوانين، كما أرسلت بريطانيا "تشارلز بلجريف Belgrav" ليعمل مستشاراً لحكومة البحرين، واستطاع هذا بعد شهور من وصوله أن يصبح قائداً عاماً للشرطة ورئيساً لشؤون القضاء ومراقباً عاماً للإدارة المالية والصحة والأشغال. باختصار لقد أصبح "بلجريف" هو الحاكم الفعلي خلال الفترة (1926-1957).

 

وقد عبرت "الحركة الوطنية" عن نفسها في شكل موجات من الإضرابات والمظاهرات، توحدت فيها مكونات المجتمع البحريني من السنة والشيعة في جبهة متماسكة واستطاعت تقديم مذكرة تضم مطالبها، التي تضمنت تأسيس مجلس تشريعي يضم عناصر متساوية من أنصار المذهبين ويرأسه ابن الحاكم، وإصلاح إدارات الشرطة والقضاء والتربية، وضمان الأفضلية للمواطنين في العمل بشركة النفط. وقد حاول المستشار البريطاني شق صفوف الحركة من خلال محاولة تحييد (الشيعة)، ولكن فشلت المحاولة وتفجرت موجات السخط في أواسط الطلبة والعمال من جديد، واخترقت المظاهرات الشوارع وأغلقت الأسواق، فواجهت السلطات ذلك بالتصدي لهم بالقوة واعتقال عدد من قادة الحركة في نوفمبر 1938م، كما نفت بعضهم إلى الخارج، وقد أتاحت ظروف الحرب العالمية الثانية فرصة للمسؤولين "الإنجليز" للقيام بمزيد من أعمال القمع والشدة ضد الحركة الوطنية، فلقد ركز المستشار "بلجريف" كل الصلاحيات التنفيذية والقضائية في يده وبدأ يمارس دوره باعتباره رئيساً للحكومة وقائداً للشرطة والمتصرف في مالية البلاد ومرافقها، مما انعكس بشكل سيء على فساد الإدارة الحكومية لعدم تبني سياسة سليمة تستهدف صالح البلاد.

 

مابعد الحرب العالمية

وفي وقت شهدت فيه سنوات ما بعد الحرب نمواً في الوعي السياسي والوطني والقومي لدى الأهالي، وذلك بتأثير الصحافة السياسية التي عرفتها البلاد قبل غيرها من إمارات الخليج الأخرى، حاول "الإنجليز" بذر بذور الفتنة بين (السنة والشيعة) حتى لا تقوى الحركة الوطنية على مواجهتهم، فكانت اضطرابات سبتمبر 1953م، التي شابتها بعض الأحداث الطائفية. وبالرغم من ذلك فقد شكلت بعض هذه الأحداث ونتائجها أساساً للعمل المشترك وللاتحاد المرتقب بين (السنة والشيعة) لتوحيد الجهود والتضامن، وبدأت الحركة الوطنية عام 1954م بدعوة المواطنين لاتخاذ مواقف من شأنها كفالة الحرية السياسية وإدخال بعض الإصلاحات في مجالات الصحة والتعليم والقضاء، ورغم هذه المطالب الإصلاحية المتواضعة إلا أن الحكومة واجهتها بالإرهاب والقمع، وبالانتقام من العمال الذين أيدوها وشاركوا في الإضراب الذي دعت إليه الحركة الوطنية، وادعت أنها حركات طائفية، لتسيء بذلك إلى الحركة الوطنية.

 

بعدها أصدرت حكومة البحرين بياناً رفضت فيه المطالب، ووصفت هيئة الاتحاد الوطني بأنهم "بعض أناس سموا أنفسهم ممثلين للشعب تقدموا بطلبات ليس من حقهم أن يتقدموا بها لأنهم لا يمثلون أحداً، وأن الحكومة جادة في تنفيذ الإصلاحات ضمن المخطط الذي رسمته…”.

 

لقد كان رد الفعل الحكومي مخيباً لآمال الوطنيين الذين عقدوا مؤتمراً شعبياً في 28 أكتوبر 1954م حضره آلاف المواطنين، انتقد فيه الحكومة علناً، وطالب المجتمعون بتأسيس مجلس تشريعي منتخب باعتباره حجر الزاوية في بقية الإصلاحات، ولما لم تستجب الحكومة أُعلن عن إضراب عام عطَل كل مرافق الحياة في البحرين (4-10 ديسمبر).

 

ورداً على المطالب الشعبية تبنت السلطات "البريطانية" خطة صريحة لقمع الحركة الوطنية وتصفيتها، كما بات خطر الحركة الوطنية على النفوذ البريطاني واضحاً.

الحركة الوطنية في البحرين ركزت جهودها على الاحتفاظ للبحرين بطابعه العربي، ولم تفكر في المساس بأوضاع "الإنجليز" في الخليج في هذه المرحلة، وإنما قصرت نشاطها على التنديد بتحكم الموظفين "الإنجليز" في الإدارات الحكومية وعلى فساد هذه الإدارات.

 

غير أن عام 1956م شهد تجدد الصراع بين الحركة الوطنية والنفوذ البريطاني بسبب أحداث "العدوان الثلاثي" على مصر في أكتوبر عام 1956م وانتفاضة شعب البحرين لاستنكار العدوان، وقد لعبت قيادة المعارضة دوراً خطيراً في تهيئة الرأي العام لمواجهة الموقف وكان أهم ما أصدرت منشورها رقم (78) الذي تضمن قرارات تدعو المواطنين إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية والفرنسية، والامتناع عن شحن أو تفريغ السفن التابعة للدولتين، وعدم تموين طائرتهما، وكذلك عدم تزويد القوات البريطانية بالمؤن، وأخيراً دعوة الموظفين والعمال للانسحاب من خدمة تلك القوات.

 

وقد واجهت السلطات هذه الانتفاضة بإعلان حالة الطوارئ في نوفمبر واعتقال زعماء الهيئة، وبعد محاكمات سريعة وظالمة ودون ضمانات، حكم على الباكر والشملان والعليوات بالسجن مدة أربعة عشر عاماً لكل منهم، بينما حكم على إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى بالسجن عشرة أعوام لكل منهما، وأرسل الثلاثة الأول إلى سجن في جزيرة "سانت هيلانة"، أما الآخران فقد سجنا في جزيرة "جدة" بالبحرين، كما شرعت السلطات في توسيع دائرة القمع والإرهاب، لمواجهة موقف عمال البحرين الذين أوقفوا ضخ النفط وتكريره ومع ذلك ألحقت المظاهرات الشعبية أضراراً بالمنشآت البريطانية في المنامة، حتى اضطرت القوات العسكرية البريطانية إلى التدخل بحجة حماية المصالح الأجنبية، ومع ذلك استمر الإضراب العام، الذي قُمع فيه الوطنيون بقسوة بالغة وقطعت أرزاقهم، وعطلت الصحف، ودخلت البلاد في مرحلة خطيرة من القمع والتضييق والإرهاق.

 

وعلى الرغم من قمع الحركة الوطنية في البحرين على هذه الصورة، إلا أنها نجحت في الإطاحة بالمستشار "بلجريف" في بداية عام 1957م الذي رأت الحكومة البريطانية التضحية به لتهدئة الحركة، واستبدلت منصبه بمنصب جديد هو "سكرتير حكومة البحرين" الذي تولاه "المستر سميث" بنفس السلطات تقريباً وإن بدت وظيفته شكلياً محدودة الصلاحيات، وبالرغم من ذلك فقد ظل الموظفون "الإنجليز" مسيطرين على الجهاز الحكومي في إدارات الجمارك والبوليس والأمن العام وغيرها، كما كرّس المستعمر لحكم القبيلة “الأحادي" مقابل المطالبة بتأسيس برلمان وبناء دستور ديمقراطي، وبقيت الأوضاع هكذا حتى قبيل الاستقلال.

 

لقد كان شعب البحرين يطالب بالشراكة، متطلعا لأن يكون وطنه متحضر ومنفتح بعيداً عن لغة القمع التي مارسها ولا يزال يمارسها النظام في حقه مكرساً بذلك منطق العداء للشعب قامعا لحرياته متربصا بمكتسباته، لذا نال هذا الشعب الاستقلال عن بريطانيا بعد حراك قدم من خلاله الغالي والنفيس، وقد اعطي شعب البحرين في اول دستور بعد الاستقلال بعض المكتسبات لكن غياب المصداقية والجمود في السلطة لم يحصل عليه، لذا ومن منطلق ان الشعب من حقه ان يكون مصدراً حقيقياً للسلطات لا زال شعب البحرين يطالب بها منذ 40 عاماً، وهو ما يكشف عن حجم وتجذر المشكلة السياسية في هذا البلد

 

ان التسهيلات اللوجستية لكل من بريطانيا وأمريكا ومن خلال تسهيل تغيير التركيبة السكانية ومحاولة التلاعب بتاريخ البحرين، وطمس هويته النضالية هو شأن لعبت فيه تلك القوتان دوراً كبيراً بالرغم من إدراكهما لخطورته على استقرار البحرين وأثره على الوضع العام الحالي والمستقبلي في المنطقة. وتتحمل السلطات البريطانية والأمريكية مسئولية تجاهل ما يقوم به النظام من جلب المرتزقة وزرعهم في البحرين من خلال برنامج الإستيطان وتغيير الهوية البحرينية، وهو أمر لا يمكن أن ينساه شعب البحرين مهما طال الزمن. ولن ينسى ما يقوم به رموز النظام من توثيق للعلاقات التي كانت سرية في الماضي مع الكيان الصهيوني، وما هو إلا استجابة للضغوط الأنجلوأمريكية على النظام من أجل أن يستمر دفاعهما عنه.

 

ان ثورة البحرين وجلاء المستعمر البريطاني تاريخ لا يمكن نسيانه، فأي سلطة واي حكومة تأتي لتؤكد ارتباطها بشعبها وأرضها تحيي وتخلّد هذه المناسبة بشتى الطرق وتتغنى بذلك التاريخ وتحتفي به ابد الدهر، وهنا نسأل لماذا يتم إلغاء هذه المناسبة العظيمة في البحرين؟!

 

ان التضحيات الجسام التي قدمها شعب البحرين لقاء استقلاله لازالت محفورة على صفحات الزمن وتتناقلها الاجيال ليبقى الحراك مناهض لكل معاني التمييز الطائفي ومحاربا لكل برامج تغيير الهوية البحرينية وتشويهها.

أضيف بتاريخ :2015/08/28

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد