آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

خمسة أعوام من الكوارث تؤكد ضرورة التغيير

 

د. سعيد الشهابي

 

بعد خمس سنوات من انطلاق ثورات الربيع العربي وقمعها يمكن القول إن الضحية الأخرى لقوى الثورة المضادة هو العقل العربي الذي ضرب في صميمه، واستسلم أمام الضربات الموجعة من تلك القوى. فما عاد هذا العقل يتمتع بالحرية والليبرالية التي رفع شعاراتها أجيال سبقت من المفكرين والكتاب والعلماء خصوصا في مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار، وما أعقبها. ونتيجة تلك الهزيمة تداعى الوعي العام في الشارع العربي، وتراجعت الشعارات التي كان بعضها يردد في العقود السابقة والتي استمر ترديدها وممارستها عمليا خلال الشهور المعدودة للربيع المشار إليه.

 

بدأت هزيمة العقل والمنطق عندما استطاعت قوى الثورة المضادة تنفيذ الانقلابات المتكررة على الثورات، ورضخ أصحاب الفكر والقلم للواقع الجديد الذي فرض بقوة السلاح والمال، سواء في شوارع القاهرة أو دمشق أو صنعاء أو المنامة. كان يفترض أن تكون بصائر تلك النخبة أقوى من الغشاوة التي فرضتها تلك القوى على الجماهير. غير أن مراجعة سريعة لأنماط التفكير في السنوات الخمس الماضية تؤكد استسلاما مطلقا لشعارات لا يستطيع ذوو التوجهات النيرة قبولها أو ترويجها. عمد أعداء التغيير منذ الأيام الأولى للصحوة العربية الموؤودة لأحداث قطيعة نفسية وسياسية وايويولوجية بين قوى التغيير الشعبية، تارة على صعيد الايديولوجيا السياسية وأخرى بترويج مقولات الأمن والاستقرار وثالثة باستخدام لغة التغيير التي يستخدمها المحتجون، ورابعة بالتخويف من «الإسلام السياسي» وخامسة بتعميق التمايز المذهبي.

 

كان حراك شعب البحرين من أول تجليات تلك الثورات، عندما خرجت الجماهير في الرابع عشر من شباط/فبراير من ذلك العام مطالبة بالتغيير كمخرج من أزمة سياسية استمرت عقودا. ويشهد تاريخ النضال الوطني البحراني انه لم يكن يوما مؤسسا على أجندات دينية أو مذهبية، بل بشعارات وطنية وبأساليب سلمية. تجلى ذلك خلال قرن من النضال المتواصل، بدأ في مطلع العشرينات من القرن الماضي عندما كان البريطانيون يهيمنون على المنطقة ويديرون شؤونها اليومية. فبعد ما سمي «انتفاضة البحارنة» في 1922 تدخل البريطانيون لاستبدال الحاكم الطاعن في السن آنذاك، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، بنجله الشيخ حمد الذي حكم حتى وفاته في 1942. وتواصل التعاضد الوطني متأثرا بالثقافة التحررية المناهضة للاستعمار والهيمنة الغربية، التي بثها المثقفون الشاميون والمصريون الذين وفدوا على البحرين لممارسة التعليم. وتذكر الوثائق كيف أن الانكليز استطاعوا في نهاية العشرينات، أبعاد الأستاذ السوري، حافظ وهبة، بعد أن اتضح انه من مروجي الفكر القومي المناهض للاستعمار. ولكن الوعي والشعور بالانتماء لأمة العرب حال دون تراجع الشعب عن الاستمرار في نضاله على طريق بناء دولة عصرية مؤسسة على التوافق الوطني ومتجاوزة خطوط التمايز الديني أو المذهبي. ولذلك وقع البحرانيون، سنة وشيعة، أول عريضة مشتركة في العام 1938 للمطالبة بالمشاركة في القرار السياسي والإداري. كان ذلك التحرك انعكاسا لما كان يجري في الكويت ودبي آنذاك من تحركات طرحت أهدافا مماثلة. كانت ردة الفعل البريطانية القيام بإبعاد عدد من رموز ذلك الحراك إلى الهند ومنهم احمد بن لأحج وعبد الوهاب الزياني.

 

توالت الانتفاضات في العقود التالية حتى بلغت أوجها في منتصف الخمسينات، يومها ظهرت «هيئة الاتحاد الوطني» بقيادة عدد من رموز الوعي الحديث، من السنة والشيعة. ولكن الانتفاضة التي استمرت عامين ضربت من قبل البريطانيين عندما خرجت المسيرات الشعبية في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر 1956 منددة بالعدوان الثلاثي على مصر، واستهدفت المصالح البريطانية على نطاق واسع. ردة الفعل كانت شرسة، فحدثت الاعتقالات وتمت محاكمة قيادات الانتفاضة، وقرر البريطانيون إبعاد ثلاثة من قادتها هم عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز الشملان وعبد علي العليوات، إلى جزيرة سانت هيلانة النائية بالمحيط الأطلسي. وتواصلت الاحتجاجات الشعبية بطابعها التحرري الوطني في الستينات والسبعينات والتسعينات، واشترك البحرانيون (من السنة والشيعة) في الزنزانات التي بقيت حتى وقت قريب تحت ادارة البريطانيين.

 

الثورة الحالية التي انطلقت متناغمة مع الربيع العربي، كانت حصيلة جهود متواصلة استمرت عقودا ومثلت كافة شرائح المجتمع وتعالت على محاولات التتفتيت والتمزيق. السبب كان الوعي الذي فرضته تطورات المنطقة: النضال ضد الاستعمار، الوعي القومي، احتلال فلسطين، الخطاب الوحدوي المنطلق من القاهرة من الأربعينات حتى الستينات، تفوق الخطاب القومي على الدولار النفطي الذي تكاثر لاحقا ولعب دوره في فرض واقع يخلو من الوعي الوطني والقومي ويكمم الأفواه ويحارب العقل ويكرس ثقافة الجاهلية، ويروج ثقافة التطبيع مع المحتل. وقد بلغ اليأس من أمكان تحريك الشارع العربي مدى كبيرا، خصوصا بعد أن أصبح العمل العربي المشترك تقوده قوى الثورة المضادة، بدلا من القيادت الوطنية التي ظهرت بعد حقبة الاستعمار واستمدت شرعية وجودها وبعدها الجماهيري من تصديها للاحتلال الإسرائيلي. كانت قضية فلسطين طوال ستين عاما، الخيط الذي جمع شتات الأمة بعد أن سعى المستعمرون لتمزيقها بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية. وعلى مدى قرن كامل كان لمفكري الأمة وعلمائها دور في التوعية ولم الشمل ومنع التشظي، ودور آخر في إبقاء شعار التغيير قائما، لمواجهة التركة الاستعمارية الثقيلة التي فرضت عليها أنظمة حكم تمارس القمع والاستبداد وتضحي بالمصالح الكبرى من اجل الحفاظ على كراسي القلة الحاكمة.

 

كان ذلك واضحا لدى مفكرين كبار، ابتداء من الإمام حسن البنا، مرورا بعز الدين القسام و الحاج أمين الحسيني وآية الله البروجردي والإمام الخميني ونواب صفوي ومالك بن نبي والشيخ محمد الغزالي. وعندما حدثت الصحوة الإسلامية في السبعينات والثمانينات ساد الاعتقاد بأنها ستكون الفصل الأخير في رحلة العرب والمسلمين التاريخية من اجل استعادة الهوية المؤسسة على الحرية واحترام الإنسان وممارسة العدالة والشورى. وكان الربيع العربي التجسيد العملي الأكبر للتحول المنشود. ولكن قوى الثورة المضادة استطاعت القيام بأكبر انقلاب سياسي وامني وفكري وديني، وتمكنت من إعادة الأوضاع إلى المربع الأول الذي سبق سقوط الخلافة.

 

في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام كانت الصورة مختلفة تماما. ونظرا للنشوة التي عمت شعوب المنطقة، لم يكن أحد يعتقد بإمكان الانقلاب على إرادة شعوبها، خصوصا أن الصحوة الجديدة مدعومة بمسلسل من الانتصارات على الاحتلال الإسرائيلي الذي كان في نظر الكثيرين، المعوق الأكبر للتحول الديمقراطي في المنطقة العربية. شعب البحرين شارك بقية شعوب المنطقة بحراكه السلمي، ولكنها استقبلت بحساسية مفرطة من جانب النخبة التي كان يعول عليها في مجال الوعي وتحاشي الاستغفال والاستهبال والاستدراج لأجندات معادية للتغيير. استمرت هذه الثورة طوال الحقبة المنصرمة وما يزال شبابها يتظاهرون يوميا بدون انقطاع.

 

إلى أين تتجه ثورة البحرين؟ الأمر المؤكد أن التغيير في البحرين لن يحدث بمنآى عما يحدث في المنطقة. وبرغم قمع الثورات الأخرى فما تزال مشاعر الجماهير تلتهب حماسا ورغبة في التغيير. ولا شك أن مصر هي الدولة العربية الكبرى التي تتطلع لها بقية الشعوب، برغم ضرب ثورتها بانقلاب عسكري دعمته القوى المعادية للتغيير. يدرك البحرانيون أنهم يخوضون معركة صعبة ويطالبون بما يبدو مستحيلا.

 

أنهم يرون ما حدث في اليمن التي تتعرض لحرب منذ قرابة الأحد عشر شهرا، وترى إلى أين وصلت الأوضاع في سوريا التي أصبحت ساحة لصراعات الدول الإقليمية والدولية. ووضع ليبيا ليس مختلفا كثيرا، فقد تقاسمتها الأطراف المتصارعة وأصبحت هي الأخرى حاضنة لمجموعات التطرف والإرهاب. البحرانيون غير مستعدين للتضحية بأمن بلدهم وشعبهم، كما أنهم لن يستسلموا للقمع السلطوي الذي لم يتوقف يوما، ويعتقدون أن من الضرورة بمكان حدوث التحول الديمقراطي في منطقة تأخرت عن ركب الإصلاح السياسي عقودا. والأمل أن تستيقظ العقول والقلوب وتتمرد على محاولات الاحتواء أو التحييد أو الاستقطاب، لتقف مع مشاريع التغيير السلمي الهادفة لاستعادة الحقوق المشروعة للشعوب، وفي مقدمتها تقرير المصير واختيار النظام السياسي المناسب. فالبديل لذلك الفوضى والعنف والتطرف والإرهاب.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

 

القدس العربي

أضيف بتاريخ :2016/02/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد