آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عامر محسن
عن الكاتب :
كاتب بصحيفة الاخبار اللبنانية

«عالمٌ يقوم على القوانين»

 

عامر محسن

«حين يظهر إمبراطوران في وقتٍ واحد، أحدهما يجب أن يتمّ تدميره» - رسالة من إمبراطور الصّين، وجّهها في القرن الثاني قبل الميلاد إلى ملكٍ فييتنامي قرّر أن يطلق على نفسه لقب الإمبراطور

اللقاء\المواجهة بين ممثلي الخارجية الأميركية والصينية في آلاسكا الشهر الماضي كان مشهداً من النوع الذي يستثير المقاربات الكبرى والدراميّة. تعبير «لحظة تاريخية» تكرّر في التقارير والتحليلات، واللقاء كان «تاريخياً» من الناحية الرمزية على الأقل. قدّم الأميركيّون «قائمة» من القضايا (شينجيانغ وهونغ كونغ، السياسات الاقتصادية الصينية، «عالم يقوم على القوانين») هي فعليّاً تعدادٌ لقنوات تدخّلٍ واختراق: نريد أن نتدخّل في سياساتكم الداخلية، لنا رأي في سياساتكم الاقتصادية والمالية، ونريد أن نراقب سياساتكم الخارجية ونُخضعها لـ»قواعدنا». المسألة هي أنّ الوفد الصيني لم يجب على هذه النقاط أو يفاوض عليها، بل شكّك في الموقع الخطابي الذي يسمح لأميركا وحلفائها، من الأساس، بطرح بمثل هذه الطلبات (ثمّ ذكّر الوفد الصيني محاوريه بأنّ الصين، ودخل الفرد فيها لا يزال قرابة خٌمس دخل الأميركي، قد قضت على الفقر المدقع فيها، وأنها لا تشنّ حروباً تقتل الملايين، وأنّ الغرب لا يمثّل غالبية البشرية أو يتكلّم باسمها).
هذا اللقاء جاء أيضاً في وقتٍ تزدحم فيه السوق الغربية بالأدبيات عن «الحرب الباردة الجديدة» (وأكثرها يُكتب من موقع المحارب)، وفيضانٌ من التفسيرات الثقافوية والإكزوتيكية للصين والسياسة الصينية. كنت أقرأ أخيراً رواية أميركية اسمها «2035»، كتبها أدميرال وخبير عسكري وتوصّف حرباً بين أميركا والصّين، وهذه الرواية - نفسها تقريباً - تصدر في أميركا في الأعوام الأخيرة بمعدّل مرّتين أو ثلاث في السّنة. الاقتباس أعلى المقال هو من كتابٍ للصحافي المخضرم هوارد فرنش ينتمي الى هذا النّمط (1)، الذي يعود في التاريخ الصيني ليخرج لك بـ»الجوهر» الذي يتحكّم بـ»العقل الصيني»، والذي لم يتغيّر منذ ألف سنة: إذا حوّلت الصين نفسها إلى محورٍ لإقليمها، فهي لا تسير مسار أي دولةٍ كبيرة في مثل هذا الموضع، بل هي تطبّق الـ»تيان شيا» (مفهوم إمبراطوري قديم عن قوامة الصّين على «البرابرة»)؛ وإن عطس شي جينبينغ أثناء المؤتمر الصحافي مع رئيس الاتحاد الأوروبي، فهو يستعيد فعلة إمبراطور الـ»تانغ» حين التقى بوفدٍ مغوليّ، وهكذا…
غير أن الكتاب يحوي بعض السرد التاريخي المفيد، كنقاش فرنش لجزر بحر اليابان. يتبيّن مثلاً أن لجزر الـ»ريوكيو» (وهي اليوم تابعة لليابان وعاصمتها أوكيناوا) تاريخاً مثيراً ومديداً. على قلّة سكّانها وعزلتها الجغرافية، فقد كان للريوكيو ثقافة محلية ومملكة وسلالة ملكيّة استمرّت بشكلٍ متّصل لأكثر من خمسة قرون، وكانت من الدّول المستقلّة التي تدين بالتبعية للإمبراطور الصيني. مفهوم «التبعية» في التقليد الصيني (tributary state) ستسمعونه كثيراً، وترجمته إلى العربية صعبة بعض الشيء. هو نظامٌ للدول التي كانت تدور في فلك الصين وفي جوارها، مثل كوريا وفييتنام؛ هذه كانت ممالك مستقلّة ولكنها كانت تدين بالتبعية الرمزية للصين، بمعنى أن كلّ ملكٍ جديد يرسل وفداً إلى العاصمة الصينية ليحظى ببركة الإمبراطور، ويقدّم هدايا تعبيراً عن دونيته تجاهه. بالمقابل، كانت الدولة الصينية تعطيه الدعم وامتيازات التجارة، وهدايا وعطايا مقابلة (كانت لدى البلاط الإمبراطوري قاعدة في السفارات الدبلوماسيّة، هي أن تعطي الأجنبي - أو «البربري» - دائماً أكثر مما يعطيك).
أهمية الريوكيو عند فرنش هي أنّ خسارتها أمام اليابان كانت، في رأيه، الخطوة الأولى في الانحدار الرسمي والسريع للإمبراطورية الصينية. وهنا حصل فصلٌ تاريخيٌّ طريف: فرضت اليابان، في سبعينيات القرن التاسع عشر، سيطرتها على الريوكيو ووضعتها تحت سلطة عائلة إقطاعية من جنوب اليابان. ولكنها لم تجرؤ على إعلان ذلك وتحدي الدولة الصينية بشكلٍ مباشر، فوجد أهل مملكة الريوكيو أنفسهم في موقفٍ حرج استمرّ عقدين تقريباً: لا يمكنهم صدّ الهيمنة اليابانية وهم، في الوقت ذاته، مجبرون على التظاهر باستمرار التبعية للإمبراطور في بيجينغ. من هنا أصبحوا، حين يصل الموفد الإمبراطوري إلى عاصمتهم «شوري»، يقيمون مسرحية لخداع الصينيين: يرفعون الرايات باللغة الصينية في أرجاء القصر الملكي، ويضمّخون خطابهم بحكمٍ كونفوشيوسية ومدائح للإمبراطور «ابن السماء» ثمّ، ما إن يأخذ الوفد سفينته مغادراً، حتى يلفّوا الرايات ويطووها ويرجعوا إلى خدمة أسيادهم اليابانيين. ضمّت اليابان الريوكيو بشكلٍ كامل ورسميّ بعد أن هزمت الصين في حرب 1895، وألغت الملكية فيها ونفت الملك الأخير إلى طوكيو (ثمّ، عام 1945، غزت أميركا أوكيناوا بشكلٍ بالغ القسوة والشراسة، في حدثٍ لا يقل عن هيروشيما وناغازاكي، إذ قُتل ما يقارب نصف سكّان الجزيرة في المعركة - حوالى 150 ألفاً من أصل 300 ألف مدني، إضافة إلى سبعين ألف جندي من الجيش الإمبراطوري الياباني قُتلوا تقريباً عن آخرهم).
المسألة هي أنّك، إن نظرت إلى الخريطة، ستكتشف أن الريوكيو تشكّل عقداً من الجزر، يتواصل مع جزر سينكاكو (المتنازع عليها بين الصين واليابان وتايوان)، وهذا «العقد» - مع الجزر اليابانية - يشكّل هلالاً في البحر يحتضن الصين بالكامل من جهة الشّرق. بمعنى أن أي هجومٍ على الصين أو كوريا من غرب المحيط الهادئ لا بدّ أن يمرّ عبرها، وهذا ما أعطاها - تاريخياً - أهميتها الاستراتيجية، ولهذا بنت أميركا إحدى أكبر قواعدها العسكرية في أوكيناوا.

الامتيازات والعقوبات
في أواخر القرن الثامن عشر، أرسل الملك البريطاني جورج الثالث بعثته الدبلوماسية الأولى إلى البلاط الإمبراطوري. عادت السفارة البريطانية بهدايا ورسالةٍ من إمبراطور الـ»تشينغ» إلى الملك البريطاني. يقول الإمبراطور ما معناه أنّ الصين لا تحتاج إلى التجارة مع أحد، فلا شيء يمكن أن نحتاج إليه ولا يتمّ إنتاجه داخل حدودنا. فيما العالم الخارجي يحتاج إلى السلع الصينية مثل الحرير والبورسلين والمصنوعات، فتكون رعاية الإمبراطور للتجارة بمثابة «أعطيةٍ» ومنحة يقدّمها للدول الأخرى، التي تحتاج إليه ولا يحتاج إليها (ثمّ يعذر الإمبراطور الملك على جهله، حين طلب امتيازات تجارية خاصّة لبريطانيا، فمن الواضح - تقول الرسالة - إنه لا يعرف تقاليد البلاط ولا يفهم أنّه ليس في موقعٍ يسمح له بمجرّد التفكير بمثل هذا الطّلب). يستخدم فرنش قصّة البعثة الشهيرة للتدليل على ما يعتبره «جوهراً» لا يتغيّر للنظرة الصينية إلى العالم، حيث هي في قلبه، والأجانب هم أتباعٌ أو برابرة أدنى منها درجة (على أساس أنّ النخبة والمؤسسة الغربيتيْن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، ليست لديهما مركزية غربيّة ولا تنظران إلينا كبرابرة). إلّا أنّ هناك، بعيداً عن الإسقاطات التاريخية الفجّة، أمثولةً هنا في الاقتصاد السياسي عن ميزان القوى في التجارة والإنتاج. صحيحٌ أن الصين استمدّت، في العقود الماضية، الكثير من الأرباح والقطع الأجنبي من عائدات التصدير؛ وهي كانت - ولا تزال - أساسية في تمويل الاستثمار والبنى التحتية والتكنولوجيا في الصّين. الّا أنّ علاقة الاعتمادية تجري في الاتجاه الآخر أيضاً: حين بنت الصّين المنظومة الأكثر تنافسية في التصنيع على مستوى العالم، أصبحت هي المورّد الأول، والذي لا غنى عنه، للكثير من السلع الأساسية التي تحتاج إليها الدّول. من ألواح الطاقة الشمسية والبطاريات إلى ألعاب الأطفال. أميركا تمتلك منظومة الدولار والرساميل الوفيرة وسوقاً هائلة، غير أنّ الصين هي من ينتج السلع الرخيصة التي اعتادت الشعوب الغربية على استهلاكها وأضحت ركناً ضرورياً في أنماط حياتها. وأفكار «القوميين الاقتصاديين» في الغرب عن «إرجاع» التصنيع إلى دول المركز تبدو جميلة من الخارج، ولكنّ عمليّةٍ كهذه - وإن نجحت - ليست بالمهمّة البسيطة، بل هي سوف تخلخل كامل المنظومة الطبقية والرأسمالية التي يقوم عليها المجتمع. «امتياز التجارة» له مكانٌ أيضاً في العلاقة مع الشرق الأوسط: الفكرة التقليدية هي أنّ الصّين (وقبلها أوروبا واليابان) هي من يحتاج، وبشكلٍ ماسّ وحيوي، إلى إمدادات النفط الخليجي، فاقتصادها لا يسير من غير النفط المستورد؛ وأيّ انقطاعٍ لصادرات الشرق الأوسط من السّوق، بسبب حربٍ أو ما شابه، سيكون باهظ الكلفة. هذا صحيحٌ بالكامل ولكن، من جهةٍ أخرى، فإنّ موقع الصّين كمستوردٍ أكبر للنفط يجعل الدّول التي يقوم اقتصادها على تصدير النفط الخام، أيضاً، في حاجةٍ ماسّةٍ إليها وإلى سوقها. أميركا تقترب من الاكتفاء الذاتي بفضل النفط الصخري، وحين يبدأ الاستهلاك في أوروبا واليابان بالانخفاض بفعل سياسات الحدّ من انبعاثات الكاربون، فمن ذا الذي سيشتري كلّ هذا النفط الخليجي؟ الصين (مع الهند) هي السوق الكبرى الوحيدة التي سيتوسّع استهلاكها النفطي لسنواتٍ طويلة قادمة، ولو نظرتَ الى حصّة الصين المتزايدة من الصادرات العربية في العقد الأخير، تفهم أهمية هذه الورقة لبيجينغ في المنطقة حين تشتد المواجهة مع الأميركيين.

قد نجد مثقّفي المنطقة التي عانت أكثر من أي اقليمٍ آخر من التدمير الأميركي، وهم يصرخون محذّرين من «الخطر الصيني»

هنا نصل إلى «اتفاق الشراكة الاستراتيجية» الأخير بين الصين وإيران. بدايةً يجب تصحيح بعض المزاعم الإعلامية التي أحاطت به: كلّ «التسريبات» السابقة حول الاتفاق ليست صحيحة، التفاصيل عن صفقات محددة وتبادل نفطي ليست صحيحة، الوثائق التي نشرتها «نيويورك تايمز» منذ عامٍ ليست صحيحة، والرقم 400 مليار دولار ليس صحيحاً. ووزارتا خارجية البلدين قد أكّدتا ذلك فعلياً، وأن ما تم توقيعه هو «اتفاق إطار»، لا يحوي مشاريعَ وتفاصيل وأرقاماً محددة سلفاً. كما كتبنا سابقاً، فإنّ «اتفاق الشراكة الاستراتيجية» هو نمطٌ شائع من معاهدات التعاون الثنائي في الدبلوماسية الصينية وقّعته بيجينغ، هو نفسه، مع عددٍ كبيرٍ من دول العالم وعدة دولٍ عربية (قسمٌ ممن روّجوا للنسخة «الخرافية» عن الاتفاق كانوا صقور الصين في واشنطن، الذين أرادوا تضخيم الدور الصيني وتقديم المعاهدة على أنها «غزو» صيني للشرق الأوسط - ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم وضع أرقامٍ منطقية وقابلة للتصديق). المهمّ هنا هو ليس الاتفاق نفسه، بل السياق التاريخي الذي يجري فيه. كما لاحظ المحلل الاقتصادي الإيراني اصفنديار باتمانكِليدي، فإنّ أميركا، حتى وهي في مرحلة الهيمنة الأحادية، كانت تقتصد في استخدام القوة العسكرية لمعرفتها بأنّه حتى القوة الأميركية لها حدود (على سبيل المثال، هي لا تقدر على شنّ أكثر من حربين في وقتٍ واحد). إلا أن واشنطن لم تنظر إلى منظومة العقوبات، التي طوّرتها كسلاحٍ اقتصادي لا يقلّ فعلاً عن الحرب، بالطريقة ذاتها؛ بل أفرطت في استخدام العقوبات والحصار، سواء لأسباب سياسية أو تجارية أو «أمنية»، حتى وصل هذا السيف إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. من جهةٍ أخرى، تخلت أميركا عن الادعاء القديم بأن العقوبات «موجّهة»، تستهدف الأنظمة والحكومات ولا تهدف إلى ضرب اقتصاد الدول وتجويع الشعوب. في إيران، أصبحت الخزانة الأميركية تلاحق الشركات الخاصّة ومنتجي الفولاذ والبلاستيك، عبر العقوبات «الثانوية» الشهيرة التي لا تستهدف علاقتك بأميركا بل علاقاتك بأي بلدٍ آخر، وتنقضّ على أيّ موردٍ ممكن للاقتصاد المحلي ولو كان «مدنياً» بالكامل. بمعنى آخر، أصبح أيّ بلدٍ معرّضاً لهذا النمط من الهجوم، وهو - في الوقت ذاته - قد يكون كاسحاً حين يحصل، لا يميز بين الدولة والمجتمع، يهدف إلى خنقك وعزلك عن الاقتصاد العالمي. أمام هذا النوع من «المخاطر» يكون لديك خياران: إمّا أن تقرّر سلفاً أن لا قِبل لك بمثل هذه المواجهة، وتعقلن الرضوخ للهيمنة الأميركية و»قواعدها»، مهما كانت، أو أن تبحث - بشكلٍ حثيث - عن وسائل وقنوات وعملات بديلة للتجارة لا تكون تحت سطوة الدولار والخزانة الأميركية. ما يعطي الموضوع زخماً اليوم هو الوضعية الحالية للصين واستهدافها في «الحرب الباردة الجديدة»، أي أن مهمّة الحزب الشيوعي الصيني لم تعد في التحرير والتوحيد والخروج من قعر التخلّف كما كان الأمر في العقود الأولى لجمهورية الصين الشعبية، ولا هي تتلخّص بتحقيق النموّ والنجاح اقتصادياً كما في الفترة السابقة، بل أضيفت إلى ذلك مهمّة جديدة، مركزيّة، وهي حماية هذه التجربة والدّفاع عنها.

خيارات المحاصَر
إيران، التي عاشت تحت حملات «الضغط الأقصى» لسنوات، كان من حظّها أن الحصار جاء عليها في زمنٍ تاريخي مختلف عن زمن حصار العراق وكوبا وكوريا الشمالية. هناك دينامية اقتصادية في فرض العقوبات على بلد، مفادها أن «كلفة» العقوبات - لمن يفرضها - تكون عالية في البداية ثمّ تنخفض بعد ذلك. سنشرح: حين حاولت أميركا فرض العقوبات النفطية على إيران منذ عقدٍ ونصف عقد، واجهت مقاومة من الحكومات الأوروبية في البداية، فمقاطعة إيران تعني لهذه الدول خسارة شركاتها لعقود النفط في إيران، والتخلي عن استثمارات قائمة، وإغلاق مصالح وخسارة منافذها في السوق الإيراني. ولكن، حين تسير العقوبات وتتحقّق هذه الخسائر، يصبح ثمن الإبقاء على الحصار قليلاً على الدول الأوروبية ولا يعود لديها من حافزٍ لرفعه. على خطٍّ موازٍ، توجد دينامية مشابهة تحصل في اقتصاد الدول التي تتعرض لمثل هذه الحروب الاقتصادية. حين خرج ترامب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات «الضغط الأقصى» تعرّض الاقتصاد الإيراني لصدمةٍ عميقة. بالمعنى الأوسع، فإن التوسّع الاقتصادي الإيراني الذي استمرّ، بلا انقطاعٍ تقريباً، لمدة عشرين عاماً بعد نهاية الحرب مع العراق، كبّلته العقوبات وأصبحت عدوّه الأول في العشرية الأخيرة. ولكنّ المسألة هي أن «كلفة» هذه العقوبات اليوم لم تعد كما كانت عليه منذ سنوات. لا يتوقّف الأمر على أنّ الاقتصاد الإيراني، في المحصلة، تضرّر ولم يصبه الانهيار، بل إنّه «تأقلم» إلى حدٍّ بعيدٍ مع الحصار، وقد خرج «رسمياً» من الركود (بمعنى أنه شهد ربعين متواصلين من النموّ، وهذا تحت ظروف الحصار و»كوفيد»). ومحصلة العقوبات لم تكن خسارةً شاملة، بل ضمرت قطاعات (كالنفط والتجارة) فيما استمر القطاعان الصناعي والزراعي بالنموّ حتى في أسوأ مراحل الحرب الاقتصادية. في الوقت نفسه، بعد أن وصلت صادرات إيران النفطية إلى ما يجاور الصفر قبل سنة، عادت الأرقام إلى الارتفاع، والدور المركزي هنا كان للصين، التي استوردت الشهر الماضي - وحدها - ما يزيد على المليون برميل يومياً من النفط الإيراني. هذا الواقع أنتج تياراً داخل إيران يعتبر أنّ رفع العقوبات الأميركية لم يعد أمراً «لا غنى عنه»، أو أنه على الأقل لا يستحقّ تنازلات سياسية كبرى. في «فورين افيرز»، يقول الاقتصادي والباحث هادي كحلزادة إنّ العقوبات قد قوّت من حجّة المعسكر الذي يدعو إلى الاعتماد على النفس وعلى شركاء تجاريين من خارج المنظومة الغربيّة، فيما أصبحت الشركات الصناعية الكبرى (التي يقول كحلزادة إن الكثير منها يرتبط بالحرس الثوري) صاحبة النفوذ الأول في الاقتصاد الإيراني. بل إن هناك تعبيراً في الإعلام الإيراني بمعنى «العقوبات المفروضة على الذات»، وهو سيناريو قليل الاحتمالية ولكنه ليس مستحيلاً، مفاده أن تعرض الحكومة على البرلمان اتفاقاً نووياً جديداً مع أميركا، فيقوم البرلمان برفضه.
بطبيعة الحال، هناك تيارٌ معتبر بين الباحثين كان يدفع، منذ زمنٍ، بأن على إيران اتباع سياساتٍ اقتصادية تناسب موقعها كدولة في دائرة الاستهداف الغربي. من بين هؤلاء نجد الاقتصادي إسماعيل حسين-زادة الذي كتب مراراً بأنّ على إيران أن تعتمد «اقتصاد حربٍ» وأن تستوحي من تجربتها خلال حرب العراق، بحيث تكون الأولوية هي تأمين الأمن الاجتماعي للشعب وتحصين معاشه عن الصدمات الخارجية، والاستثمار في القطاعات المنتجة التي تجلب وظائف، ومنع تسرّب الثروة عبر الاستهلاك الكمالي والاستيراد. المفارقة هي أنّ نموذج «اقتصاد المقاومة» هذا تمّ تطبيقه في نهاية الأمر، وتحت إشراف إدارة روحاني الليبرالية اقتصادياً. مفهوم «اقتصاد المقاومة» الإيراني، بالمناسبة، لا يطابق مفهوم الانعزال والقطع عن السوق الدولي (autarky) كما يتصوّر البعض، بل هو - مثلاً - مع خلق جوٍّ يجعل الصناعات الإيرانية تنافسية في التصدير. الفكرة هنا هي في الاحتفاظ بالقدرة على التحكّم بعلاقتك مع السوق الدولي وتوجيهها ضمن خطّة. ولكنّ الأساس هنا هو أن السياق التاريخي قد أعطى إيران خياراتٍ ما كانت ممكنة في عزّ صعود الهيمنة. لو لم تصبح الصين سوقاً ضخمةً «بديلة»، ولو لم يحصل الاشتباك مع الغرب في هذه المرحلة، لكان الوضع في إيران مختلفاً للغاية وأصعب بكثير. لأنّ هذه الأحداث، في الصين وإيران وغيرهما، تحصل في وقتٍ واحد، فهي تؤثّر على بعضها البعض وتغيّر، بدورها، صورة العالم بأكملها.

خاتمة
في ما يعني بلادنا، هناك أكثر من مغزى لهذه التطوّرات. على هامش الصراع بين الصين وأميركا ستقوم، بطبيعة الحال، حملة دعائية هائلة معادية للصين، وفي حالة الكثير من النّخب العربية، أنا أجزم بأنّ نتيجة الاصطفاف محسومة سلفاً. وهذا لا علاقة له بالأحداث والحقائق، بل هو ببساطة لأن النخب الثقافية والإعلامية العربية هي من الأكثر تبعيّة واستلاباً على مستوى العالم (حتى في دولٍ «تحتلها» أميركا سياسياً وإيديولوجياً، مثل اليابان وكوريا، توجد جامعات ومؤسسات وطنية تنتج مثقفين يفكّرون باستقلالية في صالح بلادهم ويطوّرون نظرتهم الخاصة للأمور). من هنا، قد نجد مفارقةً كبرى: مثقّفو المنطقة التي عانت أكثر من أي إقليمٍ آخر من التدمير الأميركي وهي تصرخ محذّرةً من الخطر الصيني (أقلّه حتى تصبح الصّين بالفعل دولة عظمى تبسط نفوذها حول العالم، وتبدأ بشراء النخب والإعلاميين).
الدّرس الثاني هو أنّ الخطط الاقتصاديّة، و «السياسات» و»الخيارات» في العالم اليوم، لا معنى لها إن لم تكن سيّداً تمتلك - في الأصل - القدرة على تقرير مصير بلدك. وهذا غير متوفّرٍ في حالتنا، سواء في الدّول التي أصبحت محميّات أم في جمهوريّات المحاصصة، حيث يفترض أن يتشارك في الحكم السارق والنّزيه، والوطني والعميل، وتجلس معهم السفارات ومنظّمات التمويل الأجنبي ومختلف مصالح الإقليم. وإلى حين يصل الصراع إلى خواتيمه وتُحسم هذه المسائل، أنت لن تكون إلّا في موقع الضحيّة وحلبة الصراعات. أحد الأوهام الخطيرة هو أن نعتبر أنّ بوادر الانحدار الأميركي تعني أنّ أميركا قد انحدرت وسقطت بالفعل، أو أنّ مظاهر الصعود الصيني تعني أنّ الحلف الغربي والهيمنة قد سقطا. كما يقول ستيفن غوانز، بعد كلّ ما جرى منذ الحرب العالمية الثانية فإنّ نصف ثروة العالم لا يزال في يد الـ10% الذين يشكلون مجموعة الدول الصناعية السبع فيما نحن، تسعة أعشار البشرية، نتقاسم النصف الآخر. فوق ذلك، حين تنظر إلى كمّ العنف الذي مارسته هذه الإمبريالية خلال قرون صعودها، فعليك أن تتنبأ بما لا يقلّ عن ذلك أثناء النّزول، وبلادنا مرشّحة لأن تكون هي الميدان.

(١) هوارد فرنش (French)، «كلّ شيءٍ تحت السماء: كيف يساهم التاريخ في تشكيل اندفاعة الصين الى النفوذ العالمي»، منشورات ديكل ايدج، 2017

جريدة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2021/04/09

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد