آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

المسؤولية السلطوية في زمن الجائحة


د. سعيد الشهابي

ثمانية عشر شهرا من الوباء القاتل تركت آثارها على حياة البشر وساهمت في تغيير التوازنات السياسية الإقليمية والمحلية، وأدخلت العالم في دهاليز بلا نهاية من التردد وإعادة تشكيل العلاقات وتغير الأولويات.
ولم تنحصر آثار الوباء بالبلدان الفقيرة التي لا تملك من الإمكانات الاقتصادية ما يكفي لتوفير الفحص واللقاح لمواطنيها، بل أن البلدان الكبرى هي الأخرى تعاني من التبعات المدمّرة للوباء الذي أغلق الحياة العامة بشكل شبه كامل في الكثير من الدول الغربية. وتشهد بلدان عديدة موجات متفاوتة من ارتفاع الاصابات وانخفاضها. لقد كان الأمل باحتواء الوباء معقودا بتوفر اللقاحات المناسبة، ولكن الموجات الثالثة من انتشاره في بلدان مثل بريطانيا وبعض الدول الأوروبية أكد عدم جدوى التعويل على الحسابات المادية فحسب.
ولربما تواصلت المسارات السياسية في هذه البلدان بأنماطها المعهودة في ظروف الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وانكماش الحياة العامة إلا أن المنحى العام يشير إلى تغيرات حتمية في العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية. ولا شك أن الإجراءات الاحتياطية واللقاحات ساهمت بمستوى أو آخر في الحد من انتشار الوباء وتقليص آثاره. ولكن اتضح ايضا قدرة الوباء على الانتشار برغم توفر اللقاحات لأسباب عديدة.
يضاف إلى ذلك أن معاناة البشر تصاعدت كثيرا منذ مطلع العام الماضي، خصوصا على صعيد العلاقات الاجتماعية والنفسية بالإضافة للحياتية التي تأثرت كثيرا بالارتفاع المتواصل لأسعار السلع الاستهلاكية الأساسية. وتقول الأمم المتحدة أن تصاعد أسعار الخضار والزيوت والحبوب والسكر ساهم في صعود مؤشر الأسعار لأعلى مستوى له منذ سبتمبر 2011. واذا أضيف لذلك تراجع المدخولات بسبب الانقطاع عن العمل بشكل اساس، اتضح مدى معاناة الكثير من الناس.
وثمة بعد آخر لاستمرار الجائحة، يبرز بوضوح في البلدان التي كانت تعاني قبل الوباء من اضطراب سياسي لم ينته تماما، ولكنه تراجع نتيجة الظروف الجديدة التي فرضها. وإذا كانت الاضطرابات السياسية قد تأثرت كثيرا بالوباء الا أنها لم تختف تماما ما دامت أسبابها ما تزال قائمة. لذلك تواصلت الاحتجاجات في العديد من البلدان العربية في العامين الأخيرين، وتواصلت معها التدخلات الاجنبية. وقد كشفت حرب غزة الأخيرة أن استمرار أسباب الأزمات سيبقى عامل تحريك مستمر.
لقد كان البعض يعوّل على حدوث تغيّرات حقيقية في التصورات والسياسات المرتبطة بالصراعات تساهم في التخفيف منها، غير أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة أثبت عدم واقعية ذلك الافتراض. فالاحتلال هو الاحتلال، والاستبداد هو الاستبداد، والظلم هو الظلم، سواء انتشر الوباء ام انحسر. فلم يؤثر انتشار الوباء على توجهات الحكومات او سياساتها.
في الأسبوع الماضي ارتفعت صيحات كثيرة من عائلات سجناء البحرين بعد انتشار الوباء في أقبية السجون على نطاق واسع. هذه الصيحات تتعالى يوميا بسبب رفض السلطات الاستجابة لنداءات السياسيين والحقوقيين المحليين والدوليين لاطلاق سراح السجناء السياسيين حفاظا على حياتهم.
وتشهد السجون ارتفاعا متصاعدا لحالات الاصابة التي تجاوزت حتى الآن 150. ومنذ بداية الوباء سعت عائلات السجناء للضغط على الحكومة للإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين يرزحون وراء القضبان بسبب تعبيرهم بأساليب سلمية عن آرائهم ومواقفهم السياسية ولكن لم تستجب الحكومة لذلك. وبعد أن انتشر الوباء في السجون ازداد قلق عائلات السجناء فبدأت حملة جديدة قوامها ثلاثة امور:

أولها المطالبة بالافراج الفوري وغير المشروط عن المعتقلين السياسيين الذين قضى أغلبهم اكثر من عشرة أعوام وراء القضبان.
ثانيها: رفض مشروع «العقوبات البديلة» الذي طرحته الحكومة ولم يكن له نصيب من النجاح
ثالثها: تحميل الحكومة مسؤولية إصابة المعتقلين السياسيين بجائحة كوفيد ـ 19 او وفاة أي منهم. وتصاعد قلق العائلات بعد وفاة أحد المعتقلين السياسيين قبل شهرين بعد اصابته بوعكة صحية لم تمهله طويلا، وربما كانت مرتبطة بالوباء. وعلى مدى الاسابيع الأخيرة انتظمت عائلات السجناء في وقفات ليلية في الشوارع العامة وهي ترفع صور أبنائها ولافتات تطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن السجناء السياسيين. ويمكن ملاحظة مفارقة واضحة بين الموقفين الحكومي والشعبي. فالحكومة أعلنت مشروعا بريطانيّا تحت مسمّى «العقوبات البديلة» كعنوان لإخراج بعض المعتقلين من داخل السجون مع ضمان إنهاء حياتهم السياسية جملة وتفصيلا ومنعهم من رفع قضايا ضد سجانيهم ومعذبيهم. أما العائلات فقد رفض أغلبها هذا المشروع وأصرت على الافراج الفوري وغير المشروط، ورفضت القبول بتجريم ابنائها.
الأمر المؤكد أن الصعود المفاجئ لانتشار كوفيد-19 في البلاد كان صدمة كبيرة للمواطنين، خصوصا بعد أن أصبحت البحرين الدولة الثانية عالميا من حيث نسبة الإصابات إلى عدد السكان. يضاف إلى ذلك أن الوفيات اليومية التي صاحبت هذه القفزة هزت مشاعر المواطنين الذين اعتبروا الحكومة مسؤولة عن ذلك الانتشار. فهي التي فتحت حدود البلاد للأجانب بدون حدود وبلا ضوابط صحية مناسبة لأهداف سياسية أهمها التظاهر بعودة الحياة العادية إلى طبيعتها. وهي التي رفضت وقف الرحلات القادمة من الهند بعد تفشي الوباء بين مواطنيها وانتشار المتحوّر الهندي الذي يعتبر أشد فتكا وأسرع انتشارا. ثالثا أن الحكومة سمحت بدخول المصابين من السعودية والإمارات إلى أراضي البحرين للحجر الصحي، الأمر الذي كان مستغربا ومرفوضا. فكيف بهذا البلد الأصغر خليجيا أن يكون حاضنة للمصابين بدلا من إبعادهم عن حدوده؟
من المؤكد أن تكون هناك مماحكات ومزايدات واتهامات متبادلة بين الشعب والحكومة خصوصا بلحاظ العلاقات المتوترة بين الطرفين منذ عقود. وقد تجددت القطيعة بينهما بعد انطلاق ثورة 14 فبراير 2011. ولم تساهم في تحسين العلاقات السياسات المعمول بها منذ ذلك الوقت، خصوصا في غياب الاستثمار الحقيقي في المكوّن البشري والقطاع العام وبناء البنية التحتية ودعم المستلزمات الغذائية التي شهدت صعودا كبيرة في الاسعار. كان بإمكان حكومة البحرين استثمار المعونة الخليجية التي قدمت لها في العام 2011 وتبلغ 10 مليارات دولار، في تطوير البنى التحتية ودعم المواد الغذائية المستوردة بدلا من رفع الدعم عن السلع الاساسية. أن هناك تخبطا سياسيا غير مبرر ساهم في زيادة انتشار الوباء في هذا البلد الذي عملت طواقمه الطبية بإخلاص وتفان ومهنية واستطاعت تحجيم الاصابات ثمانية عشر شهرا. هذه الطواقم هي نفسها التي استهدفت من قبل الحكومة في العام 2011 بالاضطهاد والتنكيل والسجن.
والسبب انها أصرت على حيادها الطبي وقامت بعلاج ضحايا العنف الحكومي. هذه الطواقم رفضت الإملاءات الحكومية بتجاهل المصابين آنذاك، واعتبرت أن واجبها المهني والإنساني يحتم عليها علاج كل جريح وعدم الالتفات إلى هوية المصاب او انتمائه السياسي. ويفترض في الدولة العصرية أن تكون امكاناتها كافة من أجل خدمة المواطنين، وليست سلاحا يستخدم ضد منتقدي السياسات الحكومية او المعارضة.
الوباء الحالي الذي فرض واقعا جديدا على العالم لن يختفي من الوجود بالسرعة التي يتمناها سكان هذا الكوكب. ومن أسوأ مصادر القلق قدرة فيروس كورونا على التحور ليصبح أكثر فتكا. وقد أصبح هناك المتحور البريطاني والمتحور الهندي وأخيرا المتحور الفيتنامي، وهي بذلك تمثل تحديا للقاحات التي تم إقرارها على عجل وقد لا تستطيع مواجهتها بسهولة.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2021/06/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد