آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

«بيغاسوس» مشروع يهدف لمنع التحول الديمقراطي

 

د. سعيد الشهابي

فجأة سرت رعشة شديدة في أوصال القطاعات الدولية المعنية بالحريات العامة، بعد انتشار خبر مفاده أن آلاف الأشخاص في العالم تعرضوا لعملية تجسس ورصد إليكترونية عبرت الحدود واستعصت على الكشف، باختراق هواتفهم النقالة.
وقد عُثر على أدلة تفيد بأن قائمة طويلة من الهواتف كانت أهدافًا لبرنامج تجسس يُعرف بـ «بيغاسوس» وهو فيروس من نوع «حصان طروادة» الذي استخدم سابقا لاختراق أجهزة الكومبيوتر، تم تطويره بواسطة مجموعة (إن إس أو) الإسرائيلية. وجاء في تقرير أصدرته مجموعة من المؤسسات الإعلامية الأسبوع الماضي أن الحكومات الاستبدادية استمرت في استخدام «بيغاسوس» على نطاق واسع للتجسس على نشطاء حقوق الإنسان والصحافيين والمحامين في جميع أنحاء العالم. وتضمنت القائمة بعض المجرمين المعروفين الذين يُعتزم استخدام البرنامج ضدهم. تضمنت القائمة أيضًا أرقام هواتف مئات رجال الأعمال التنفيذيين والشخصيات الدينية والأكاديميين وموظفي المنظمات غير الحكومية والمسؤولين النقابيين والحكوميين، بمن في ذلك رؤساء دول ورؤساء حكومات، وكذلك بعض أفراد الأسر الحاكمة في المنطقة.
وكشفت صحيفة «الأوبزيرفر» البريطانية عن التفاصيل في 18 يوليو 2021 وتبعتها صحيفة «الغارديان» التي نشرت تفصيلات أكثر واستمرت في التطرق للقضية بضعة أيام. وقد توفرت تلك المعلومات بعد أن عملت مؤسسات إعلامية غربية عديدة لاكتشاف حقيقة المشروع التجسسي المذكور. ومن هذه المؤسسات: الغارديان (المملكة المتحدة) لوموند وراديو فرنسا (فرنسا) دي تسايت وزود دويتشه تسايتونج وإذاعة غرب ألمانيا (ألمانيا) واشنطن بوست وفرونتلاين (الولايات المتحدة الأمريكية) هاريتس (إسرائيل) وبروسيسو وأريستيغو نوتيشياس (المكسيك) كناك ولي سوير (بلجيكا) ذا وير (الهند) درج (لبنان) دريكت 36 (المجر) مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد.
وثمة تفصيلات مثيرة حول البرنامج التجسسي الذي أنتجته مجموعة «ان اس أو» الإسرائيلية، نشرتها وسائل الإعلام الدولية في الأيام الماضية، ولكن هناك ثلاثة محاور للقضية: الأول: مشروع بيغاسوس نفسه، والجهة التي طوّرته وقامت بتسويقه. الثاني: الجهات الممولة لتطويره في البداية ثم تسويقه واستخدامه وتحديد الجهات المستهدفة به. الثالث: المدلولات السياسية والأمنية لجريمة التجسس هذه، وانعكاساتها في مجال النضال من أجل التحول الديمقراطي ودعم حقوق الإنسان في العالم. ولكل من هذه القضايا الثلاث أهميتها في تحديد توجه المسار الإنساني في القرن الحادي والعشرين. فالتجسس ليس ظاهرة جديدة، بل ممارسة سلطوية منذ القدم، ولكن يفترض أنها أصبحت مقننة ومحكومة بمواثيق حقوق الإنسان الدولية ومقولات سيادة البلدان على حدودها واحترام الخصوصيات الشخصية للأفراد. كما أنها محكومة في دائرتها الأوسع بمبدأ إقامة حكم القانون ونفاذه على البشر بشكل متساو، على تعدد الحدود وأشكال الحكم والانتماءات الأيديولوجية. وقد تأكد أن من بين الذين استهدفوا بعملية التجسس التي شملت ما يربو على 50 ألف جهاز هاتفي أكثر من 600 ناشط سياسي ومسؤول حكومي، و189 صحافيا، و64 من رجال الأعمال، و85 من نشطاء حقوق الإنسان، بالإضافة لأفراد أسر عربية حاكمة. وأصبح واضحا أن تقنيات التجسس المتطورة، التي كانت في السابق حكراً على بضع دول فقط، باتت الآن منتشرة على نطاق أوسع وتتجاوز كثيراً ما نعرفه عن الخصوصية والأمان في عالم الإنترنت.
في الماضي القريب، إذا أرادت أجهزة الأمن معرفة ما يفعله بعض الناس، كان الأمر يتطلب قدراً كبيرا من الجهود لتحقيق ذلك. وربما كان على الجهات الأمنية الحصول على تصريح للتنصت على هاتف الشخص المستهدف أو زرع شريحة في منزله أو إرسال فريق لمراقبته. كما كان الاستهداف مركّزا ومحصورا بالاشخاص الذين يشكلون خطرا على النظام السياسي في بلدهم كالمعارضين الناشطين والجواسيس (كما كان يحدث خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي).

وثمة حقائق خطيرة تتصل بمدى ما بلغه المجتمع الإنساني من تراجع في مجال الحريات والأمن الشخصي برغم التهويل الإعلامي حول مقولات «الدولة الحديثة» و«التطور الديمقراطي» و«حقوق الإنسان» و«حكم القانون». ففي السابق كانت أجهزة الاستخبارات تستغرق وقتا طويلا لمعرفة الدوائر المحيطة بحياة الشخص. أما اليوم فقد أصبحت الهواتف المحمولة تحتوي تقريبا كل ما ترغب الدوائر الأمنية في معرفته ومن ذلك الأحاديث والأماكن التي يرتادها صاحب الهاتف، ومن يقابل من الأشخاص، وما هي اهتماماته. كما أصبح بالإمكان الوصول إلى الهاتف المحمول عن بُعد بدون أن يلمسه أي شخص وبدون أن يدرك صاحب الهاتف أن جهازه المتطور (سواء الحاسب الآلي ام الهاتف الذكي) قد تحول إلى جاسوس عليه لصالح جهة أخرى. في السابق كانت إمكانية الوصول إلى الهاتف عن بُعد شيئاً لا يمكن أن يفعله سوى عدد قليل من الدول. لكن قدرات التجسس والمراقبة المتطورة أصبحت الآن في أيدي العديد من الدول وحتى الأفراد والمجموعات الصغيرة. وفي العام 2013 كشف موظف الأمن الأمريكي السابق إدوارد سنودن عن قدرات أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية في التنصت على الاتصالات. وأكدت تلك الأجهزة دائماً أن قدراتها تخضع لتفويض ورقابة دولة ديمقراطية. كانت التفويضات ضعيفة إلى حد ما في ذلك الوقت، ولكن تم تعزيزها منذ ذلك الحين. لذلك أصبحت تقنية «بيغاسوس» قادرة على التحدُّث عن نفسها في أرجاء العالم كافة، خاصة في الشرق الأوسط. هذه التقنية استُخدمت لتعقُّب الناشط الحقوقي الإماراتي الشهير أحمد منصور والقبض عليه عام 2016. ومن ثم نال «بيغاسوس» شهرته كإحدى أهم وسائل التجسُّس الإلكتروني خاصة بالنسبة للأنظمة الأوتوقراطية في الشرق الأوسط والعالم. وكثيراً ما تزعم الدول الأكثر استبداداً أن الصحافيين والمعارضين ونشطاء حقوق الإنسان «مجرمون» أو يمثلون تهديداً للأمن القومي، مما يجعلهم هدفاً للملاحقة والمراقبة من قبل السلطات.
لدى التطرق للقضية الاولى، أصبح واضحا أن «إسرائيل» لديها أفق أمني وسياسي يتجاوز حدودها وأنها تسعى لتوسيع نفوذها من خلال تطوير الرصد الإلكتروني لكي تستطيع خوض حروب سايبرية ضد مناوئيها خارج حدود فلسطين، كما تستخدمها على نطاق واسع ضد الفلسطينيين. ومنذ بضع سنوات استخدمت إمكاناتها التكنولوجية ليس في التجسس فحسب بل في أداء مهمات عسكرية كما تفعل مع إيران في الوقت الحاضر. ويتجلى مشروع التمدد الإسرائيلي في ثلاثة أبعاد: سياسي يتمثل بتوسيع علاقاتها مع دول عربية تتصدرها دولة الإمارات العربية، وعسكري بتطوير صناعاتها العسكرية وبيع السلاح على نطاق واسع للدول الأخرى، وأمني من خلال تطوير صناعاتها الإليكترونية التي وضعت الحرب السايبرية في صدارة أولوياتها. ويعتبر مشروع «بيغاسوس» واحدا من أكثر الوسائل التجسسية تطورا وأوسعها انتشارا، وأكثرها جذبا للزبائن من الأنظمة الشمولية التي تستهدف مناوئيها بلا رحمة أو هوادة.
أما القضية الثانية فترتبط بتمويل مشروع التوسع الإليكتروني وتطوير وسائل الحرب السايبرية. ويبرز اسم دولة الإمارات كجهة مساهمة في تطوير الاقتصاد الإسرائيلي خصوصا بعد تطبيع أبوظبي علاقاتها مع تل أبيب. ففي السنوات الأخيرة موّلت دول الخليج مجموعة «ان اس او» الإسرائيلية بمئات الملايين من الدولارات في مقابل حصولها على برنامج بيغاسوس التجسسي. ووفقا لما توصل إليه تحقيق الجهات الإعلامية السبع عشرة في القضية الأخيرة فقد عيّنت الشركة فريقا خاصا للعمل مع تلك الدول، ويحمل كل شخص في هذا الفريق جواز سفر أجنبيا لتسهيل سفره إلى تلك الدول وتقليل الشكوك حول الدور الإسرائيلي. وهكذا أصبح نظام التجسس المذكور مصدر ثروة مالية للكيان الإسرائيلي من جهة ووسيلة لتوسيع النفوذ السياسي من جهة أخرى.
القضية الثالثة ذات الصلة بمشروع بيغاسوس تتصل بالدلالات السياسية لمشروع التجسس المذكور، ودور «إسرائيل» في التصدي للنشطاء السياسيين المعارضين للاحتلال ولحكومات الدول الصديقة للكيان الإسرائيلي. إنه جانب من المشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة، إذ تسعى لتوسيع نفوذها لها في العالم العربي بتمتين العلاقات مع أنظمة الحكم فيها. ويهدف الكيان الإسرائيلي لمنع حدوث تغير نوعي في منظومات الحكم العربية.
يمكن القول أن مشروع «بيغاسوس» الذي اكتشفت بعض تفصيلاته، يمثل ذروة عمل قوى الثورة المضادة التي تضافرت لمنع التحول الديمقراطي في المنطقة.

صحيفة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2021/07/26

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد