ثقافية

تقاسيم أيّام لم يُعرف ليلها من نهارها...

 

وقت الهزائم وفي المنافي

يطيب الحديث عن التّاريخ أو حتّى وهم التّاريخ...

 

 وقت الهزائم يجب أن نستعيد وقائع التاريخ، والتاريخ أول كل شيء وقبل أي شيء هو الذاكرة.

 

في الجزء الثّالث من خماسيّة مدن الملح: "تقاسيم اللّيل والنّهار" تعود بنا ذاكرة الراوي إلى البدايات الأولى للتداخل الأول مع العالم الخارجي وانهيار المكان الأول بزمانه الطبيعي. هذه المرحلة التي يسميها الباحث طلعت أبو زيد (مرحلة الفتك والعنف‏): وقد امتدت المرحلة الأولى من الحرب العالمية الأولى‏،‏ أو قبلها بقليل‏، حتّى ما بعد الحرب العالمية الثانية.‏

 

 تُتوج هذه المرحلة خربيط كأهم حاكم في المنطقة في اللحظة التي يقتحم فيها الغرب الصحراء، الّذي وجد في تحالفه مع خربيط وسيلة لامتلاك الثروة التي كان يبحث عنها. وبهذا استغل السلطان الظرف للهيمنة على كل ما يمكن أن تطاله يده. ولم تمض سنوات حتّى أصبحت موران تدين بالطّاعة والولاء، وتقدّم الزّكاة والجنود له. وتصلي وراء الشيوخ الذين نشرهم في هذا الخضم الصحراوي. إن النظرة الشاكة في التطور والتحولات التي حدثت سريعا على مجتمع الصحراء هي إدانة واضحة لعمليات التحديث التي حلت في المجتمع البدوي الذي نقل فجأة إلى مجتمع نفطي.

 

 يستهل عبد الرحمن منيف روايته الثالثة من الخماسيّة بـ :

أننا لن نشارك في الحياة القادمة و لكننا نحيا اليوم من أجلها. أننا نعمل ونتألم من أجل خلقها وفي هذا وحدة يقوم هدف وجودنا وتقوم إذا أردتم، سعادتنا. وتقاسيم الليل والنهار استعادة للماضي من أجل التهيؤ للمستقبل.

 

وفي زمن قيام مدن الملح كلّ شيء مطروح لإعادة النّظر، لإعادة القسمة: الأفكار، المناطق، السّلاطين والأمراء الصّغار وحتّى ملوكهم.

 

 دول تنهض فجأة، وأخرى تغيب كما الملح في الماء.

 

يطرح منيف في هذا الجزء التغييرات النفسية والظاهرية التي تحدث على موران والزّمان وبني الإنسان، والتحول المثير في العلاقة بينهم.

 

 وموران تلك المدينة الغارقة بالنّسيان والرّمال، كان أمراؤها المئة يتنازعون عليها كما تتنازع النسور. كانت دولهم تكبر وتصغر وبعض الأحيان تنتهي تبعاً للأمطار والجراد وتبعاً للغزوات أو الهواء الأصفر الذي يصل إلى هذا المكان النائي مع المسافرين. فإذا نجت موران من هذه الويلات وبدأ أبناؤها ينظمون القصيد ويغنونه وتكررت سباقات الخيل وخرجت الصبايا إلى العيون دون خوف وأصبح الناس يشبعون فعندئذٍ لابد أن يتكفل أمراؤها المائة بتحويلها إلى جحيم. إنهم يصابون بنوع خاص من الجنون وهذا الجنون الذي يتكرر كل بضع سنين يأتي فجأة وينتهي فجأة أيضاً لكن خلال الفترة القصيرة التي يكون فيها يخلف من الضحايا والأحقاد والثارات ما يجعل الحياة خوفا مستمراً وثارات لا تنتهي.

 

...وقرعت طبول الحرب

أخذت مجريات الحروب والمعارك حيّزًا واسعًا في الجزء الثالث من الخماسيّة. وسار الجند إلى الجبهة، واشترى السّلطان من السلاح حمل ألف بعير. ها هي الأموال تدفع بسخاء، الأسلحة جديدة ومعها ذخيرة، أما الوعود فلا تسأل عن الحدود! وكان خريبط يضرب بيد من حديد في معارك وجوديّة صدمت القناصل الموفدة من الغرب وأثارت تحفظهم. كما أن خريبط لم يغفل عن تحضير ولديه خزعل وفنر للحكم بتنصيبهم قيادة بعض المعارك هنا أو هناك أو إعطائهم السّلطة لإبرام الاتّفاقات والمعاهدات مع بريطانيا وأدواتها، وإذ به ينصح ابنه فنر بأن يفتك بالناس فتكا‏: "‏خلي الأرض ترجف تحت رجلك‏،‏ وما أحد كبير غيرك"‏.‏  كلّفت حروب أهل الأرض الواحدة ضدّ أولاد عمّهم خسائر في الأرواح والأموال، ونقمة وكُرهًا لدى أترابهم لبعضهم البعض. وأخذ الدّم يجرّ الدم في بلاد كانت قربة الماء واحدة يتقاسمها  أولاد عشيرتين.

 

أمّا الرجل الأجنبي "هاملتون"  الذي جاء برومانسية المستعمر وأراد مزجها ببساطة البداوة من أجل تثبيت الاستعمار والسيطرة على دفة الاقتصاد دون الالتفات إلى حياة الناس العاديين فقد اصطدم مع السّلطان "هذه أملاكنا وأملاك أجدادنا، ويلزم ترجع لنا، أنتم مديتم لنا بساط له أوّل ما له تاني، وبعد ما تورطنا صرتم تفرضون شروطكم،...أنتم معنا أو قومٌ علينا؟". نخلص من هذا الجزء إلى أنّ شخصية الانتهازي الحالم مثل المستعمر ساهمت في بناء المجتمع النفطي ولكنها لم تتورع عن استغلال كل الوسائل لصالحها تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة، مبرمة معاهدات أسلحة وتقسيم حدود مذلّة للسلطان وأرضه وناسه.

 

كما وأخذت المرأة في هذا الجزء دورًا بارزًا كان شبه مغيّبًا في الأجزاء السّابقة. ففضّة وغيرها من اللواتي عكسن شكل القمع أو الصورة المفروضة عليهن في المجتمع، أو غيرهنّ ممن كان وجودهنّ ضروريا لتسيير أمور القصور في الغزوات. ولعبت أخريات من الزّوجات أو حتّى خليلات السّلاطين دورَ المحرك في الكثير من أحداث وخصومات أروقة قصر الرّوض وثارات كيد النّساء. وعلى حدّ قول ابن العريفان: "إذا أردت أن تذلّ رجال سلّط عليه حريمة". ولم يغفل منيف في روايته عن التطرّق إلى مكايد الجواسيس من الخدم وغيرهم من الّذين أتوا ليسمّموا هذا الأمير أو ذاك السّلطان وينشروا الإشاعات المغرضة كوسيلة سهلة يستطيع من خلالها أعداء البلاد العبث بأمن القصور وحاكميها وموران ومن عليها. وبعدها لفّ الصّمت قصر الرّوض وعاش فترة طويلة في ظلامٍ دامس.

 

 كتب منيف رواياته فيما بعد الهزيمة العربية وانكساراته، وكان مشغولا بالهموم السياسية والثورية التي تفرعت عنها، غير أنّه لم يغفل عن الآثار التي تركتها الحداثة القاسية التي غزت وطننا العربي ولم تخلف وراءها إلّا الاستغلال والسجون والفقر والتفرقة بين أولاد الخيمة الواحدة. ومثل الجانب السياسي في حياة منيف كان الجانب الروائي يؤمن بقدرة الرواية على الثّورة والتغيير.

 

ويختتم الراوي بصوت شمران العتيبي وهو يملأ الفضاء: (وهذي موران، بالها طويل، تحمل وتحبل، لكنها أبدْ ما تنسي، فإذا كانت اليوم بهذا الشكل، ما أحد يدري شنهو اللي يصير باكر واللي يصير عقبه). وبمثل صوت شمران العتيبي، يمتلئ الفضاء أيضاً، ولكن بصوت نجمة المثقال: (وبآخر ذلك الزمان لابدّ وأن الناس تقوم والظلم ما يدوم وتحصل سوالف يحكيها الناس لولد الولد).

أضيف بتاريخ :2016/12/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد