آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
صالح زياد
عن الكاتب :
أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب، جامعة الملك سعود .

الأكثرية والأقلية


صالح زياد ..

الاحتكام إلى خيارات الرأي دلالة على السعة والحرية، واستباق ذلك بما يمنع الرأي المخالف ويحتكر الحكم ويفرض رأيا واحدا ووحيدا، دلالة على الضيق والاضطرار

تردَّد الحديث عن "الأكثرية" و"الأقلية" في المملكة، أخيرا، في سياق الاختلاف حول بعض المطلبيات الثقافية والاجتماعية، كالمطالبة بفتح دور للسينما وإقامة حفلات غنائية، ضمن مناشط هيئة الترفيه وغيرها، أو الاختلاف بشأن قيادة المرأة للسيارة، وتشارُكها الحضور مع الرجل في قاعات الفعاليات المنبرية في الملتقيات والمناسبات الثقافية. وكان استدعاء مبدأ الأكثرية والأقلية في شكل تهديد ووعيد وإسكات ودحض للمخالف، وفرض للذات، بالقول مثلا: "رأي الأكثرية هو كذا" أو "نريد استفتاء"، وذلك من جهة من يكونون ضد هذه المطلبيات وليس من يطالبون بها، في تلويح بالثقة واليقين أن الأكثرية ضدها، وفي تعبير منهم عن مشروعية الاحتكام إلى رأي الغالبية وعدالته.

لكن هذا التوظيف لمبدأ الأكثرية والأقلية ينم عن سوء فهم للمبدأ، وسوء استعمال. وعلى عكس ما يحدث في سياق تولُّده والاستعمال له من دلالة على الديموقراطية والحرية ووعي بالتحدي الذي يفرضه الاختلاف في المجتمع، والثراء والإنعاش والحيوية فيما يتمخض عن القبول به وحسن الإدارة له، فإنه ينم في توظيفه هنا، عن ديكتاتورية وعن تخشُّب وجمود.

وأول ما يستبين لنا سوء الفهم والاستعمال لمبدأ الأكثرية والأقلية، في هذا الصدد، في توظيفه في وجهة النفي لرأي الآخر، وإنكاره، والاضطهاد له. وهذا يعني استعماله من منظور طائفي أو عنصري؛ فالأكثر والأقل يقسمان المجتمع من حيث الرأي، مثلما تقسمه الاختلافات الطائفية أو العرقية داخل الكيان السياسي الواحد.

وإذا قبلنا هذا المفهوم، فإننا نقبل الطائفية والعنصرية، ونحيل الاختلاف في الرأي من حل إلى مشكلة، ومن جسر إلى جدار. وهنا سوء الفهم وسوء الاستعمال؛ ذلك أن نتيجة ذلك هي توتير العلاقة بين مكونات الرأي في المجتمع، وترجيح تمزقها وتأزمها، وسيادة طابع عنيف فيما بينها.

صحيح أن الأكثرية والأقلية وصفان مستخدمان بالمعنى الطائفي والعنصري، فيوصف، مثلا، المسلمون بالأقلية في فرنسا، أو أن السود أقلية في بريطانيا وأميركا... إلخ. ولكنه وصف لا يستخدم بهذا المعنى إلا بقصد التعبير عن حقوقهم في مجتمع الأكثرية أو توصيف اضطهادهم والتمييز ضدهم. وهذا سياق للدلالة على مشكلة، إلا إذا كان ذلك في سياق معرفي خالص هو الوصف المجرَّد للسكان من حيث مكوناتهم المذهبية والعنصرية.

هذا المفهوم المعبأ بالدلالة الطائفية والعنصرية، مغاير للمفهوم "السياسي" الذي أخذ وصف الأكثرية والأقلية منه أهميتهما وقيمتهما الإيجابية، في تجاوب مع سياق يستوعب الاختلاف ويتيح التعدد وينتعش به. وهو سياق يقفز على الطائفية والعنصرية بكل معانيهما، بتحويلهما من تصادم إلى تلاق، ومن مشكلة إلى حل.

وفي هذا المفهوم "السياسي" لا نَعْبَأ بالكم والعدد في التصنيف إلى أكثرية وأقلية، وإنما بالنسبة إلى المركز وهو موقع السلطة، في ضوء الحق في تداول هذا المركز، وانتفاء أي ذريعة للاستبداد به واحتكاره. ولذلك تغدو الأقلية هنا مفهوما واصفا لمن يقع في الهامش قياسا على مركز السلطة. ومن هذه الوجهة يجري –مثلا- تصنيف النساء أقلية في مجتمع سلطته ذكورية أبوية، ويجري تصنيف السود أقلية في مجتمع يستبد البيض بالسلطة فيه، حتى وإن كانت الأقلية أكثر عددا.

الأقلية، هكذا، قيمة مطالب وحقوق، ومن ثم قيمة حركة ودفع؛ إنها خطاب التغيير في مقابل خطاب الثبات والجمود، وفضاء التحول والتطور في مقابل السكون. والثبات والجمود والسكون هي أوصاف الأكثرية من موقعها في مركز السلطة والنفوذ؛ فليس يتصف بهذه الصفات من هو في الهامش؛ لأن هامشيته هذه هي ما يدفعه إلى أضدادها، ولو اتصف بها لتحول من موقعه في الهامش إلى المركز، ولفقد قيمته في الحركة والتغيير والحيوية.

أما إذا نظرنا إلى صفة الأكثر والأقل من جهة العدد، فإن حساب الأكثرية في موقف الضد للمطلبيات الثقافية والاجتماعية في سياقنا المحلي، ادعاء محض؛ فلم يقم استفتاء بإثبات ذلك، ولا تتحقق الشروط الموضوعية والحيادية لإجراء الاستفتاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لكنه ادعاء مقترن باحتكار شرعية دينية "مذهبية" له، وإقصاء الآراء الفقهية المخالفة له عن المشروعية. وعندئذ تتنزل الدعوة إلى الاحتكام لما يسمَّى "رأي الأكثرية" في منزلة الأمر بالالتزام بالرأي الشرعي الذي لا رأي غيره في منطق هذه الوجهة، وليس في معنى إتاحة الخيار بين مواقف اختلاف معلنة –تجاه المسائل موضوع الحجاج- لدى عديد الفقهاء في داخل المملكة وخارجها، ولدى القدامى والمحدثين.
وسوءُ الاستعمال لمفهوم الأكثرية والأقلية هنا، واضح للعيان؛ فلو نَتَجت الأكثرية عدديا، في جهة المطلبيات التي جرى الادعاء بأنها جهة القلة، فسيتضمن ذلك وصفهم بالمضادة للدين، والخروج من ربقة أحكامه، وهذا موقع الهامش على سلطة الدين ومركزيته في حياة المجتمع، أي موقع الأقلية وفق المفهوم السياسي للأقلية.

لا منطق –إذن- لدى من يريد الاحتكام إلى ميزان الأكثرية والأقلية، في مسألة لا يرى اختلافا مشروعا للآراء حولها. فالاحتكام إلى خيارات الرأي دلالة على السعة والحرية، واستباق ذلك بما يمنع الرأي المخالف ويحتكر الحكم ويفرض رأيا واحدا ووحيدا دلالة على الضيق والاضطرار.

لذلك لا يحضر الحديث مبدئيا عن الأكثرية والأقلية إلا في الاستدلال على فضاء يتيح الاختلاف والتعدد، ويضمن الحقوق للجميع. أما خارج هذا الفضاء فلا يحضر الوصف بالأكثرية والأقلية -بالمعنى المبدئي وليس التجريدي والصوري المستخدم للأغراض المعرفية- إلا في سياق طائفي وعنصري، سياق تُنتقَص فيه الحقوق ويُمَارَس الاضطهاد ممن يمتلكون السلطة.

وزبدة القول، إن المشكلة ليست في ممارسة الاضطهاد والتضييق باسم الادعاء لـ"لأكثرية" وحسب، بل في ممارسة القسمة –أيضا- للأكثرية والأقلية باسم الدين. فالمشكلة في شقها الأول تبدو في اتخاذ صفة "الأكثر" في الأكثرية ذريعة للاستبداد، وكأن هذه الصفة لم تتولد إلا لوصف القوة التي تؤهل لفرض الرأي الذي يسوغ الاضطهاد للآخرين وحرمانهم والتضييق عليهم، وفي شقها الثاني تأخذ هذه الأكثرية لبوسا عقديا ومذهبيا ضد شركائهم في الدين والمذهب والوطن.

ليس بمقدور أي مجتمع أن يتطابق في الأفكار والمطالب والرؤى، بل إن الفرد يتحول ويتعدد في آرائه وأفكاره ومطالبه. وقد جرى لدى الفقهاء الحديث عن تغير الفتوى عند الفقيه الواحد، مثلما جرى الحديث عن اختلاف الفقهاء. وفي الفلسفة تحدث هيجل عن الاختلاف داخل الكائن، داخل الهوية، مثلما الاختلاف والتمايز عن خارجها؛ فالهوية –لديه- لا تتعين إلا كحركة، ولا تتعين ثباتا نهائيا يتطابق مع ذاته ويتميز عن غيره. وهذا يعني أن امتياز أي مجتمع وحيويته ومقدار تماسكه، ليس بقياس الأكثرية والأقلية فيه قياسا يتوهم التطابق والوحدة والنفي لما عداه، بل بقياس قدرته على إدارة تعدده والاستيعاب لتنوعه، وامتلاك أرضية مشتركة تتيح اختلافه وتمتص حدَّته وتوتره.
 
صحيفة الوطن أون لان

أضيف بتاريخ :2017/02/12

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد