قصة وحدث

قصة وحدث: أنا اخترتها

رحمة عبدالله ..
كانت الشهادة اختياره .. اختيار لم يكن لسانه يتلو بها فحسب وإنما تلتها آيات من صميم قلبه، فتسابقت أحرف تلك الدعوات موكبه.. فانطلق برفقة زوجته وابنه ومرافقيه.. واضعا نصب عينه الهدف، فسار نحوه متوكلا على الله وحده..

إنه يوم السادس عشر من شهر فبراير، يصادف الذكرى الثامنة لشهادة شيخ الشهداء "الشيخ راغب حرب" الذي اغتالته يد عملاء الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان في عام 1984 ميلادي عندما انطلق رصاصهم الغادر نحوه، كان أمين عام حزب الله آنذاك السيد عباس الموسوي الذي يرى ويعتقد بعظمة الشهداء وأنهم القرآن الناطق ماكان منه إلا أن توجه لإحياء تلك الشعيرة الإلهية ..شعيرة سقوط دم الإنسان فوق تراب وطنه في مواجهة الاحتلال والعدوان الغاشم الذي يعبث بأرواح الناس ومقدراتهم.

 

من هو السيد عباس الموسوي؟

 السيد عباس الموسوي من مواليد العام 1952ميلادي في بلدة" النبي شيت" بالبقاع اللبناني، كان قد درس في مدرسة بلدته الرسمية، وتابع دراسته الابتدائية في مدرسة الساحل الواقعة في "الشيّاح" في الضاحية الجنوبية لبيروت حتى أنهى المرحلة المتوسطة.

شب السيد عباس الموسوي على معاينة مأساة الشعب الفلسطيني  المظلوم في العام 1968ميلادي، ومنذ نعومة أظافره تعرّف ذلك الفتى على المقاومة الفلسطينية، فاتخذ قرراً أن يلتحق بإحدى الدورات العسكرية التي أقيمت في سوريا، ولمّا يكن قد تجاوز السادسة عشرة من عمره حينها.

ومن ضمن من تأثر بهم السيد عباس كان السيد موسى الصدر، فقد كان من عادة السيد موسى أن يأتي إلى الشيّاح لزيارة أحد السادة من آل الموسوي، وهو قريب لوالد السيد عباس، فأرسل السيد عباس مع والده للسيد موسى أنه يرغب بلقائه والتعلم عنده، فأعطاه السيد موسى موعداً في صور وبعد الإجراءات المتّبعة التحق بطلب العلوم الدينية.

وأصبح ذلك الفتى المقبل على العلوم الدينية صاحب معرفة عميقة بالسيد الصدر أدّت تلك المعرفة إلى أن يتأثر به، خصوصاً من ناحية الفكرية والسياسية والحركة التبليغية والنشاط الاجتماعي وفهم الناس والتعامل معهم، والانفتاح على الآخر كل ذلك وأكثر وكأنه وجد ضالته.. في المقابل كان السيد عباس محط إعجاب من قبل السيد موسى حيث وجده تجاوز همومه الشخصية ليحمل هموماً تخص الأوضاع العامة، مما دفع السيد موسى ليعطيه اهتماماً خاصاً.


 
الهجرة للنجف الأشرف..

وبعمر السابعة عشر بالتحديد في عام 1969 م قرر السيد عباس الذهاب إلى النجف الأشرف في العراق ليتابع دراسته الدينية، وفي الحوزة العلمية  تعرف على السيد محمد باقر الصدر حيث شكّل بالنسبة إليه نموذجاً فريداً، وفي تلك المرحلة أيضا قد تعرّف إلى رفيق دربه الشيخ راغب حرب، وتعرّف  كذلك على السيد حسن نصر الله الذي كان له صديقا وأخا ورفيق درب، كما كان له المعلم والمربي .

 

العمل التبيلغي ..

وفي أول زيارة للسيد عباس إلى لبنان في عام 1973م، بدأ بالعمل التبليغي منطلقاً‏ من بلدته النبي شيت.. كان يجتمع الشباب في البلدة يستمعون إلى محاضراته ولم يتجاوز آنذاك الحادية والعشرين من عمره. وكان يمتلك قدرة  خطابية مميزة، زاد في ميزتها أفكاره المتماسكة رغم سنين عمره القليلة. وتوسع عمله التبليغي في القرى والبلدات المحيطة وكان يذهب بصحبة عقيلته التي كان دورها في تبليغ النساء في تلك النواحي.. فلم تكن "أم ياسر" شريكته في الجهاد والتبليغ فحسب، بل أبت إلا أن تشاركه الشهادة ..

لازم السيد عباس النجف  الأشرف إلى العام 1977م ، وفي هذا العام عمد النظام البعثي في العراق إلى شن حملة ضد الحوزة .. كان السيد عباس حينها قد أتى إلى لبنان للتبليغ كعادته في شهر محرم الحرام، وعلم بالاعتقالات وأدرك أن اسمه يأتي في رأس قائمة المطلوبين، وبالرغم من ذلك أراد العودة إلى النجف إلا أن أستاذه السيد محمد باقر الصدر أمره بالبقاء في لبنان ريثما تنجلي الأمور لأنه كان يعلم أن ألقت السلطة القبض على السيد عباس، فلن يكون هناك مجال لإنقاذه.

 

سحر الثورة ..

ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام روح الله الخميني "رض" في عام 1979م .. كانت لتلك الشخصية العظيمة سحرها الخاص في قلوب وعقول الكثيرين، وتمكن "روح الله" من إعادة الكثير من أبناء الأمة إلى مبادئ الإسلام بعد أن مالوا لتيارات مختلفة. وقد رأي السيد عباس -باكراً- في الثورة المبدأ الصحيح، والقاعدة الصلبة، ورأى فيها القائد الحكيم.

 

سنخدمكم بأشفار العيون..
وكان السيد عباس من المساهمين الأساسيين في تأسيس المقاومة الإسلامية "حزب الله" وذلك في عام 1982م وبعدها أصبح في عام 1985م مسؤول الشورى للحزب. وفي شهر مايو من العام 1991م  تم انتخاب السيد عباس أميناً عاماً لحزب الله خلفا "للشيخ صبحي الطفيلي" ، فاتحاً بذلك مرحلة جديدة من مسيرة الحزب وفي مقدمتها خدمة الناس إلى جانب استمرار عمل المقاومة،  وكان شعاره الشهير "سنخدمكم بأشفار العيون" لا يزال خفاقاً إلى اليوم في مبادئ حزب الله.

وفي السادس عشر من فبراير من العام 1992 ميلادي، انطلق السيد عباس الموسوي لإحياء الذكرى السنوية لشهادة الشيخ راغب حرب وما أن وصل السيد عباس إلى بلدة جبشيت، بلدة رفيق دربه.. وبعد كلمة ألقاها من وحي المناسبة أعلن فيها موقفه من الاحتلال الإسرائيلي كما أعلن موقفه من الإهمال والحرمان لـ "جبل عامل"- الذي يعاني من التهميش والحرمان وأبسط مقومات الحياة الكريمة- ، حتى صدرت الأوامر لطاقم مؤلف من 4 مروحيات اباتشي من شمال فلسطين المحتلة لتنطلق بعد انتظار دام ثلاث ساعات نحو مهمة عاجلة في جنوب لبنان.. المهمة كانت اغتيال أمين عام  المقاومة الإسلامية التي كانت ولا تزال عظم في حلق الاحتلال وأعوانه وجلاوزته ..

 

أنا اخترتها...

وفي الرابعة عصرا بعد أن أنهى السيد عباس جولته في جبشيت على المزارعين انطلق موكبه باتجاه بيروت وعندما وصل الموكب إلى بلدة تفاحتا وعلى بعد آلاف الكيلو مترات.. وفي غرفة القيادة العسكرية في تل أبيب أعطى إيهود باراك الضوء الأخضر ..بعد تأكد طاقم المروحيات من أن الهدف داخل إحدى سيارات الموكب.. أطلقوا صواريخهم الحرارية الحارقة باتجاه سيارته فأصاب واحد منها القسم الخلفي من السيارة ..فكانت الشهادة التي تواعد معها وعقد عهوداً ومواثيقاً بينه وبينها.. وعد لا ينسى "أن ترزقني شهادة مطهرة، أنا اخترتها بنفسي كفارة عن ذنبي، شهادة قلَّ نظيرها يتفتت فيها جسدي"..  فتجلت بأقصى جمالياتها حيث جمعته بأحب الناس لديه برفيقة دربه وفلذة كبده ..الطفل الصغير "حسين" كان الشاهد والشهيد الأكبر على همجية العدوان.


 
عوض علينا بسيد ..

وفي صبيح اليوم التالي من اغتيال السيد عباس اتشحت بيروت بالسواد .. كل شيء خيم عليه الحزن.. الجميع في باحة مستشفى الرسول "ص" يستعدون للإلقاء النظرة الأخيرة .. نظرة الوداع ..نظرة العهد والميثاق بأن المسيرة ستبقى وأن الدماء المراقة ظلما وعدواناً ستبدد ذلك العدوان مهما تغطرس وتجبر .. مئات الآلاف من جماهير المقاومة خرجت في مراسيم التشييع....كان التشييع مهيباً وصرخات المحبين تعلو إلى عنان السماء كان من بين تلك الصرخات لشيخٍ طاعن في السن- إنه صوت الأب المفجوع بفلذة كبده- مناجيا السماء .."إلهي عوض علينا سيد مثل هذا السيد"..

أضيف بتاريخ :2017/02/16