آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
ليون برخو
عن الكاتب :
مدير مركز دراسات ممارسات الإعلام وتأثيرها على المجتمع جامعة يونشوبنك-السويد.

الإعلام وعالم الحقائق «البديلة»


ليون برخو ..

حتى الآن، ما زلنا ندرس في كليات وأقسام الإعلام، النزاهة والموضوعية والصدق والأمانة والدقة في نقل المعلومة إلى المتلقي.

ولدينا الآن كم هائل من التراكم المعرفي والأكاديمي الذي بواسطته نستطيع تدريس طلبتنا الأسس المطلوبة من حيث اللغة والنحو والصرف والتوازن في العبارات والجمل وطريقة بث الصور المتحركة والثابتة لنقترب قدر الإمكان من الصدق والأمانة وعدم خداع المتلقي.

الوسائل الإعلامية الرصينة كانت تأخذ ما يأتي به البحث العلمي من تنظير وممارسة في عين الاعتبار. وكنا نأخذ مسألة التشبث بالأخلاق الصحافية وقواعد العمل الصحافي النزيه أمرا بدهيا ومسلما به.

ولكن يبدو أن نظرياتنا وفرضياتنا الأكاديمية بدأت تسقط واحدة تلو الأخرى لأنها لم تعد صاحبة الزمام في مسيرة الإعلام في عصرنا هذا.
ولم يعد هناك منهج نستند إليه كالسابق لنقل الحدث بحقيقته وواقعه إلى المتلقي.

وحتى المتلقي بدأ يفقد ثقته بالإعلام. والحق مع المتلقين من القراء والمشاهدين والمستمعين.

يبدو أننا فقدنا المسلك العقلاني الذي كان الإعلام يعتمده لنقل المعلومة كما هي بغض النظر عن الميول ووجهات النظر مهما كانت.

والأخطر من ذلك، يظهر أن دور البحث العلمي والدراسات الأكاديمية على المستوى الجامعي في التأثير في مسلك الإعلام وممارسته آخذ في الاضمحلال والضمور.

اليوم نحن بحاجة ماسة إلى نظريات ودراسات تساعد الإعلاميين أولا ومن ثم المتلقين على كشف إن كانت المعلومة بأي هيئة صحيحة أم لا.
كلنا أصبحنا في خشية من أمرنا لأننا لا نعرف أن المادة الإعلامية التي نحصل عليها كمتلقين صحيحة أم لا.

خطر الأخبار والمعلومات الكاذبة لم يكن بهذه الدرجة طوال التاريخ. وأحد الأسباب الرئيسة في تفشي الكذب في نقل المعلومة هو أن الإعلام كمهنة، الذي من المفروض أن تسيره قواعد السلوك والأخلاق وشروط النزاهة والموضوعية، صار اتكاليا في أغلب مناحيه وأوجهه.

فمن ناحية التمويل، قلما نرى وسيلة إعلامية مستقلة ـــ بمعنى أنها تجني ريعها بالكامل من خلال مبيعاتها. الاتكال من الناحية المادية يفقد الوسيلة الإعلامية أهم شرط من شروط استقلاليتها.

وهناك مسائل تخص الميول أو وجهة النظر. وهذه من الأهمية بمكان لتحقيق النزاهة والموضوعية في نقل المعلومة. الميل بأي شكل من الأشكال على حساب ميل آخر يعد انتهاكا خطيرا لأخلاق المهنة.

وهناك مسألة خطيرة أخرى تتعلق بالخطاب الذي عرّفناه في هذا الموضع بأنه يشمل النسق والأطر والطرز والقوالب ولا سيما التي تجعل مني ومن ميولي شيئا حميدا ومن الآخر وميوله شيئا بغيضا. الإعلام اليوم لا يجتر هذه الأطر ويكررها إلى الحد الممل بل يستنبط أطرا جديدة أغلبها مشحونة بالعاطفة والذاتية وبعيدة كل البعد عن الموضوعية والنزاهة.

وأخيرا نأتي إلى أخطر مشكلة يواجهها الإعلام بصورة عامة والتقليدي منه بصورة خاصة.

في السابق، كان الإعلام الرصين لا ينشر معلومة دون التحقق منها وموازنتها مع المعلومة المضادة.

خلال عملي في وكالة "أسوشييتد برس" The Associated Press AP رفض المحرر مقالا لي وأصر على عدم نشره لأنه كان يستند إلى مصادر مجهولة الهوية. الوكالة كانت في حينه لا تشجع نشر أي معلومة منسوبة إلى مصادر لم تفصح عن هويتها أو اسمها إلا في حالات نادرة قد لا يتسع المجال هنا لذكرها.

اليوم قلما تقع أعيننا على خبر أو مقال إلا وكان للمصادر المجهولة الهوية دور بارز فيه.

الإعلام صار اتكاليا ليس فقط من حيث التمويل بل من حيث نقل المعلومة والتحقق منها.

بيد أن الاتكالية وصلت حدّا مخيفا حيث نرى أن بعض الوسائل الإعلامية سلمت مقاليد الصحافة إلى وسائل التواصل الجماهيرية وأرى أن هذه العبارة أفضل ترجمة للمصطلح الإنجليزي social media.

بعبارة أخرى، بدأت وسائل التواصل الجماهيرية احتلال وسائل الإعلام التقليدية. اليوم يلعب هاو أو أي شخص عادي دور الصحافي المهني. ليس لأنه يريد ذلك. في الحقيقة كلنا نريد أن ننقل المعلومة. السبب أن الصحافة ذاتها صارت اتكالية إلى درجة أنها لم تعد تكترث لنقل معلومة وتمحيصها حتى وإن أتت من شخص عادي لا ناقة ولا جمل له بالإعلام كمهنة وممارسة.

وكم هو عدد الذين منحتهم التكنولوجيا الرقمية صلاحية نقل المعلومة وجعل الإعلام من بعضهم نجوما كبيرة في عالم الصحافة؟ عددهم قد يصل إلى نحو ملياري شخص، أي ثلث البشرية.

إذا لم يعد لدينا شيء اسمه "الحقيقة"، أي ليس هناك بعد اليوم نقل نزيه وموضوعي للمعلومة. هناك حقائق بديلة، أي كل واحد له حقيقته. هل ضاعت الحقيقة؟

جريدة الاقتصادية

أضيف بتاريخ :2017/03/10

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد