آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
صالح زياد
عن الكاتب :
أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب، جامعة الملك سعود .

غياب المرأة عن حفلة الشعر النبطي


صالح زياد ..

الموقف الثقافي العامي والتقليدي من المرأة معقَّد، فهو يجمع بين إعلائها وإدنائها، وبين الدلالة على الرغبة فيها والحذر منها والاسترابة فيها

كان عنوان خبر صحيفة عكاظ عن برنامج ليالي «الشعر النبطي» الذي نظمه مركز الملك فهد الثقافي في الرياض الأسبوع الماضي، لافتا في إشارته إلى غياب المرأة، حين ورد العنوان بهذه الصيغة: «ليالي الشعر النبطي تنطلق في الرياض.. والمرأة تغيب».

وهو عنوان لافت لأنه يثير سؤالا مزدوجا في اتجاهين مختلفين: أولهما في اتجاه الصحيفة: لماذا لاحظت عكاظ غياب المرأة؟! والثاني في اتجاه الشعر النبطي ومنظمي برنامجه: لماذا لم تشتمل فعالياته على مشاركة تخص المرأة؟!

قد نقول في الإجابة عن سبب ملاحظة الصحيفة غياب المرأة، إنها تقيس على حضور المرأة في مناشط الثقافة «العالمة» ثقافة اللغة «الفصحى»، وهي ما يمكن وصفها -أيضا- بالثقافة «الرسمية» أو ثقافة «المتعلمين» قياسا على الربط المعتاد بين الشعر النبطي والثقافة «الشعبية» والثقافة «الشفهية»: ثقافة اللغة «المحكية» أو «العامية».

فالمرأة تحضر، لدينا في الآونة الأخيرة، مشارِكة ومتلقية في الأمسيات الشعرية والقصصية وفي الندوات والمؤتمرات الأدبية، وتُدعى إلى هذه المشاركة والحضور من الدوائر الرسمية المختصة. وعدم حضورها -عندئذ- في فعاليات مختصة بالشعر النبطي، يخالف ذلك، ويُبرزه للملاحظة.

ولكنها ليست ملاحظة محايدة، ولا تقصد الوصف المجرد وحسب، بل هي معبَّأة بقصد نقدي لاستبعاد المرأة، موجَّه إلى المنظِّمين للفعالية، أو إلى الشعر النبطي وثقافته، من موقع خارجي عنهما، هو موقف الثقافة العالمة، أو الثقافة المعاصرة، أو الوجهة النسوية التي تقاوم تهميش المرأة وإقصاءها.

هكذا تنطوي هذه القراءة على تمييز بين الثقافة «العالمة» والثقافة «الشعبية» من وجهة نظر كل منهما إلى المرأة. وهو تمييز يحمل قيمة إيجابية تجاه المرأة في الثقافة العالمة، وقيمة سلبية تجاه المرأة في الثقافة الشعبية.

لكننا نلاحظ أن موقف الاحتجاج على التمييز ضد المرأة، وتهميشها، يذهب إلى الاستشهاد بحياة البادية والريف، حين كانت البادية وكان الريف في أوج تلقائيتهما وإقبالهما على العمل وعلى مناشط الحياة وضروراتها التي تفرض حضور المرأة واضطلاعها بالمسؤولية والتشارك مع الرجل.

وعلى أي حال فإن غياب المرأة عن فعاليات مخصَّصة «للشعر النبطي» أمر لا يمكن العثور على سبب له خارج هذا التخصيص، فالمنظِّمون لهذه الفعاليات هم المنظمون أيضا، وفي المكان نفسه أوائل شهر صفر من هذا العام، لليالي خاصة بالرواية السعودية، ولم تغب المرأة عنها.

فإذا كانت الثقافة الشفهية الشعبية أكثر حفاوة بالمرأة وتقديرا لمكانتها، فلماذا تفرض غيابها عن فعاليات الشعر النبطي؟ هل لأنه جنس فني لا يشتغل به إبداعا وتلقِّيا غير الرجال؟ أم لأن هؤلاء الرجال المشتغلين به لا يقبلون مشاركة المرأة في إبداعه وتلقيه؟! أم لأن المرأة تعزف عنه؟!

لن يستطيع أحد أن يدعي الإجابة بالإيجاب على شيء من ذلك، فعلى الرغم من أن اهتمام المرأة المثقفة إجمالا بالشعر النبطي والثقافة الشعبية أقل من اهتمام الرجل، فإن لدينا شاعرات نبطيات، والكثير من المتذوقات للشعر النبطي وفنونه، وبعض الدارسات اللاتي اهتممن بالشعر النبطي والثقافة الشفهية من زوايا اجتماعية وأنثروبولوجية وفنية... الخ.

غياب المرأة -إذن- عن أمسيات الشعر النبطي وندواته، يعني التشابه بين الثقافة التقليدية العالمة والشعبية، في وجهة الموقف من المرأة؛ إذ يتشاركان -حتما- في تجسيد خطاب ذكوري عن المرأة حتى وإن تحدث بلسان المرأة أو عنها؛ فمؤداه استبعاد استقلاليتها، وإلغاء وجودها الإنساني والعقلي، والتوجس المستمر منها.

ولا تختلف الثقافة القديمة عن الحديثة، كما لم تختلف العالمة عن الشعبية في ذلك، فالاختلاف هو في انبثاق الوعي النسوي الذي اكتشف في الثقافة المصادَرة للمرأة، وهو وعي ليس حديثا، على أي حال، ولكنه تعاظم مع انتشار تعليم المرأة وتحسُّن موقعها الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي، وتوافر وسائل التعبير والتواصل، وترسُّخ قيمة النقد والاختلاف وقواعدها المنهجية.

والعديد من النسويات العربيات ميَّزن الموقف من المرأة في مواقع ثلاثة: موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المرأة، الذي لم يكن دور المرأة فيه ثانويا ولا هامشيا، على نـحو ما فصَّلت ذلك المغربية فاطمة المرنيسي.

وموقف الثقافة العالمة الذي تميز بتقليص دور المرأة، وأخذ يتزايد تدريجيا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وموقف الثقافة الشعبية التي أفرطت في تضخيم الزعامة النسائية كما في قصة خولة بنت الأزور وملحمة الأميرة ذات الهمة، وفي تبجيل مشاركات النساء في الفتوح، وهو ما بحثته التونسية خولة الوريمي.

لكن تبجيل الثقافة الشعبية للمرأة، يبدو من زاوية المرأة المقاتلة والفارسة وما إلى ذلك من صفات تصنع نموذجية «الرجل» ثقافيا واجتماعيا، وهي زاوية نظر ذكورية في مواصفاتها وفي مؤداها إلى استنهاض شجاعة الرجال أو تحقيرهم.

وبوسعنا أن نلمح التبجيل للثقافة الشعبية «العامية» لدى الدكتور سعد الصويان، فعلى الرغم من أنه يشتغل عليها من وجهة أنثروبولوجية وإثنولوجية، فإن وصفه لها مشوب بحماس لها وانفعال بمديحها وتزكيتها، خصوصا في موقفها من المرأة.

وفي مقاله مثلا: «المرأة في المجتمع البدوي كما يصورها الأدب الشعبي» تركيز على إبراز حضور المرأة في هذا الأدب ودورها البارز في المجتمع، على خلفية من القياس على وضع مغاير هو الوضع الذي آل إليه المجتمع السعودي المعاصر؛ وذلك بتناثر عبارات في المقال مثل: «ولم يكن الرجل في الزمن السابق ينظر إلى جمال المرأة فقط»، «ولم يكن يقتصر دور المرأة في السابق على بيتها»... الخ.

والارتهان لهذا القياس يحيل الرؤية للثقافة الشعبية البدوية في المقال، من موضوع للكشف والمعرفة، إلى أداة للحجاج؛ فتتخلى إرادة المعرفة في هذا الارتهان عن دورها، جانـحة إلى التعظيم والتبرئة والتبجيل، وطامسة عيوب الثقافة -التي لا تخلو منها ثقافة تقليدية- في النظر إلى المرأة.

وقياس «السلب» على الزمن السعودي الحاضر، عند الصويان، يقترن -لديه- بقياس «الإيجاب» لصورة المرأة ووضعها في الأدب العامي على صورتها ووضعها في العصر الجاهلي وما اقترب منه.

ولذلك بدا من هذه الوجهة «التبجيلية» وكأنه يصف الحياة العربية قديما؛ فالشاعرات البدويات المجيدات يشبهن الخنساء وليلى الأخيلية، وتحميس المرأة للفرسان في الغارات العشائرية وما يشبهها، شبيه بما فعلته هند بنت عتبة.

والمرأة في تلك الأوضاع والصور التي تمثلها وتنطق بها، وإن كانت ذات قيمة لمجتمعها، لا تصلح للشهادة على قيمة المرأة بالمعنى الأنثوي، فهي تصنع ما يمليه عليها الذكر وما يريده منها، ومن الموقع الذي يحدده لها، وشعرها لا يصور ذاتها، بل يصور الرجل كما يريد وحسب القيم التي يمجدها.

ومن المؤكد أن الموقف الثقافي العامي والتقليدي من المرأة معقَّد، فهو يجمع بين إعلائها وإدنائها، وبين الدلالة على الرغبة فيها والحذر منها والاسترابة فيها. إنه موقف الرجل الذي يلغي إنسانيتها باستبداده وإهماله، ويستدعيها ويمجِّدها حين يرغب فيها لمتعته، والمشكلة دوما هي هذا التمركز -المضمَر والمعلَن- على الرجل.

كان على الشعر النبطي ودارسيه أن يلتفتوا إلى الموقف الحضاري للشعر؛ الموقف الذي يكف فيه الشاعر عن أنانيته بوصفه ذكرا، ويرتدع الدارس عن تحويله أدوات الكشف والمعرفة إلى أدوات للطمس والتغييب.
صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/04/02

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد