آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي سعد الموسى
عن الكاتب :
- دكتوراه في الأسلوبية والنقد الاجتماعي للغة من جامعة أسكس. - بكالوريوس في الآداب من جامعة الملك سعود بأبها. - ماجستير في اللغويات النظرية من جامعة كلورادو.

جنوب مدننا وجيوبها الخفية


علي سعد الموسى ..

يقول لي مستعرضا تجربته المثيرة: أخذت أختيّ من بعد العشاء الغائم بشارع التحلية إلى قلب أحياء جنوب المدينة، ما وراء (كوبري الميناء لكي تعرفا أن جدة ليست فقط أحياء الشمال الفارهة ولا مطاعم ومقاهي النجوم الخمسة التي تشاهدان فيها ذلك الاستعراض الطبقي.

قلت لهما: هنا يعيش ما لا يقل عن ثلث سكان المدينة وكلهم يقتاتون على بعضهم البعض، وهنا وجه حقيقي لأحد أشكال الحياة التي يندر أن يشاهدها أبناء الطبقة الوسطى فما فوق. حين انتهى من سرد رحلته القصيرة المثيرة، سبحت في الخيال إلى الذي طالما سبح بي إلى هؤلاء: لا يوجد في البلد صحافة تحقيق تفسيرية تذهب بنا إلى أعماق هذا الفقر الاجتماعي السحيق إلا فيما ندر، لا توجد لدينا على الإطلاق أي نواة للسينما وثقافة الأفلام التي تستطيع إنتاج مئات القصص من هذا المستودع البشري، فالأفلام والسينما هي من يكشف حقائق ذلك الوجه الغائب إلى المجتمع وإلى أصحاب القرار.

حتى مجموعات هواة التصوير التي تنتشر بنشاطها على الفضاء الإلكتروني انشغلت بالطيور وأسراب الحمام وأشكال السحاب، دون أن تدرك أن المنجم الإنساني موجود أمامها في هذه الجيوب الخلفية الخفية من ذات المدن.

في مثل هذه اللقطة لا أجد شيئا يشبه مدننا مثل أشجار «الرابو» التي تموت أوراقها وأغصانها السفلى تماما كلما ارتفعت هذه الشجرة إلى الأعلى وما فوق. وفي المعدل تموت مدننا في الجنوب كلما هربت هذه المدن نحو الشمال، وفي كل مرة، وفيما أستطيع كل ما ذهبت إلى الغالية الرياض أحاول العودة لذاكرتي القديمة في أحياء الجنوب في مربع منفوحة والبطحاء والعود والحلة. هنا ينام خزان الرياض البشري دون أن ندرك حجم التشققات الخطيرة في جدران هذا الخزان. وعلى الأقل وكما قال لي زميل علم اجتماع: هنا يعيش 70% من «العزاب» الوافدين في مرحلة شباب، ولن أكمل الجملة لفهم مغزى النسبة من فم زميل.

ومن هنا أيضا، ومن ذلك المربع المخيف، تصلك بالتقريب نصف كل لقمة تأكلها أو تشتريها من مطعم بالرياض، دون أن نعي أن السواد الأعظم من بين هؤلاء المساكين لا يستطيع دفع قيمة وصفة طبية أو فاتورة مستوصف. وهنا سأروي لكم فوارق غاراتي إلى مربع الذاكرة هذا في جنوب الرياض: لم أعد قادرا على الدخول إلى العمق ولا الأزقة والزوايا، وأصبحت من شدة الخوف نصف المساء بهذه الأماكن أكتفي بسيارة مقفلة في الشارع الرسمي العام. ومع الإهمال والزمن ستتحول إلى كانتونات منفلتة، ولست مضطرا إلى أن أقول إن بشائر هذا الخطر قد بدت وتوالت. وعلى الأقل خذوا أولادكم وعوائلكم إليها للعبرة، ولكن في منتصف النهار.

دعوهم يعرفون أن في عالمنا عوالم أخرى تنام في ذات الرئة وذات الشرايين التي نعيش منها ونتنفس معها كل يوم.

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/04/05

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد