قصة وحدث

قصة وحدث: ذكرى رحيل الإمام الخميني "قدس سره"..رحلة العاشق..(١)


آمنة محسن ..

القلب العاشق لا يمل الحديث مع معشوقه في أحلك الظروف.. بل تراه يزداد ولها وقربا وانجذابًا إليه.. منشغلا عن كل ماسواه حتى عن نفسه لأنه ذاب في معشوقه فلم يعد يرى لنفسه وجود ..
ولهًا يناديه و يسكب الدمع حنينا إليه ..
 
في الرابع من يونيو ١٩٨٩م..

الجميع كان خائفًا على حياة الإمام.. حتى الأطباء الذين أحاطوا حول سريره الأبيض.. صوت الجهاز الذي يقيس نبضه كان يزيد من اضطرابهم وقلقهم.. كانت الدموع وحدها تتكلم وصوت خافت بالدعاء .. إلهي حفظ لنا الإمام.. فجأة أنذر الجهاز بتوقف النبض .. استنفر الكادر الطبي .. أجروا عملية الإنعاش ومن كل قلوبهم يحذوهم الأمل بإنقاذه .. إلا أن معشوقه كان قد قبل دعاءه بأن يقبله و يأخذه إليه... لم تفلح محاولات الأطباء بإعادة روحه التي انعتقت من سجن الدنيا إلى جنة المعشوق و لقائه..

انهار الجميع باكيًا .. لقد رحل الإمام!

تلك الروح كانت متعلقة بذلك العالم، وما سني الجهاد الطويل و الكدح إلى الله إلا انتظارًا لتلك اللحظة التي تنعم فيها بالوصال الأبدي، حيث لا تمنعها الحجب ولا يكدر صفو لقائها بمعبودها و معشوقها أي مادة.. إنه اللقاء الذي ينتظره كل عاشق و عارف بالله.

"هذه القافلة تسير نحوك منذ صبح الأزل
وهي إليك تهفو حتى ليل الأبد
الكل تائهون و حيارى غارقون بحبك
مأخوذوا القلب يتلهفون لكل جانب
فاكشف النقاب عن الوجه و اظهر جمالك
ليبدو للجميع ما يرمونه برؤية وجهك
يا ساكنا خلف الأستار..
تتهاوى الأنفس كلها و تضرب القلوب" الإمام الخميني.

 

"روح الله".. فاطمي المولد محمدي النشأة..

في يوم ولادة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام العشرين من جمادى الآخر العام ١٣٢٠هـ الموافق لـ ٢٤ سبتمبر ١٩٠٢م، شاء الله أن يولد لها حفيد في إحدى المدن الإيرانية، و هي مدينة "خمين"، حيث كانت أمه السيدة هاجر بانتظار زوجها السيد مصطفى الخميني الذي خرج مع أهل القرية لمواجهة العائلات الإقطاعية، فوضعت هاجر "روح الله"، إلا أن زوجها استشهد في الطريق بين خمين و أراك بسبب و قوفه ضد الإقطاعيين، فصار روح الله يتيمًا و لم يبلغ الخمسة أشهر من عمره مشابهًا بذلك جده رسول الله محمد صلى الله عليه و آله، و شاء الله أن ترضعه امرأة أخرى غير والدته بسبب عدم تمكن والدته السيدة هاجر من إرضاعه.

ويذكر المؤرخ الشيخ مسعودي الخميني قصة تتعلق بهذا الأمر، فيقول:"عندما لم تتمكن والدته من إرضاعه حيث لم يدر ثدياها قاموا بالبحث عن مرضعة تقوم بإرضاعه، فوجدوا امرأة صالحة وكان لها طفل واحد، فأحضروها لكي ترضعه، فقالت إن الحليب قد درّ في أحد ثديي بينما جفّ الآخر، و أنا أرضع و لدي من هذا الثدي فقط، فقيل لها أعطي هذا الطفل الجانب الآخر، فإن درّ اللبن كان بها، فتقوم بوضع الجانب الجاف في فم الطفل الصغير فيدر لبنه، فتقول المرأة حينها حسنًا هذا الجانب لهذا الطفل و الآخر لولدي"

وكان لهذا المولود المميز في ولادته و علاقته بجدته الزهراء عليها السلام شأن عظيم ناله بالجهاد و الصبر و الإيمان و عشق الله.
فكان أن كسّر أصنام الجاهلية في زمانه و أعلى راية الإسلام و نصر المستضعفين وواجه المستكبرين وحكام الجور بمنطقه الفاطمي وعزمه المحمدي حتى حقق حلم الأنبياء بأن أقام دولة العدل و الإسلام.

 

الفتى الذكي و حافظ القرآن..

في السادسة من عمره ذهب روح الله إلى الكتّاب، و بدأ يأخذ دروسًا في القرآن على يد المُلا أبو القاسم واستطاع حفظ القرآن الكريم كاملًا خلال سنة واحدة، وعندما أتمّ السادسة ذهب إلى معلم آخر هو اعتماد العلماء و تتلمذ على يده في علوم الحساب و الرياضيات.

يقول الشيخ مسعودي: "كان للإمام رفيق اسمه الحاج نوروزي صاحبه منذ كان عمره ست سنوات، أي منذ بدأ التعلم في الكتّاب..يقول الحاج نوروزي عندما كنّا نذهب للتعلم كان روح الله يفهم كل ما يقوم المعلم بقراءته، و نحن نقرأ و لا نفهم، فكنا نذهب إلى روح الله و نقول ياسيد روح الله اقرأ لنا الدرس من جديد"

 

الأول في الرياضات الجسمانية..

كان روح الله الصغير رياضيًا يجيد العدو، و السباحة، و الرماية، وركوب الخيل، و رياضات أخرى، و ينقل الشيخ مسعودي عن رفيق الإمام الحاج نوروزي، قوله: " كان روح الله يتحدى كل من كان من الأطفال في خمين، و يتسابق معهم فيسبقهم جميعًا .. كما كان الإمام يجيد الرماية و ركوب الخيل، كان الأول في تلك الرياضات دومًا"

 

وقورًا منذ الطفولة..

يذكر الشيخ مسعودي أنّ"الإمام الخميني كانت له طفولة مميزة حيث لَبس الإمام العمامة و هو في سن العاشرة. و كان له و لأخيه السيد مرتضى بسنديدة من الشخصية في ذلك السن بحيث إذا سارا في أزقة خمين و شوارعها، يقف لهما كل من يمران به احترامًا لهما، و كانوا يعظمونهما، و كان له الكثير من الهيبة"

 

مقاومًا للاحتلال و مجاهدًا صبيًا..

و في تلك الفترة، أي فترة طفولة الإمام "قدس سره"، و تواجده في خمين حصلت أحداث عديدة، ففي العام ١٩٠٦م، حدثت في إيران ثورة المشروطة.. ضد الدولة القاجارية والاحتلال الروسي و البريطاني، و على أثرها أُلزم الملك القاجاري بدستور مكتوب.


 
وفِي العام ١٩١٤م و في ظل الحرب العالمية الأولى، احتل الجيش الروسي قرية "خمين".

روح الله الذي كان بلغ الثانية عشر من عمره رأى جنود الجيش الروسي، و آلياته تدخل إلى خمين، و كل القرى المجاورة..

ومنذ ذلك الحين برزت الشخصية الجهادية و روح المقاومة للطغيان و الظلم لدى الإمام، و ينقل الباحث غلام علي رجائي عن الإمام في إحدى خطبه، قوله: "كنت أحمل البندقية و أنا بعد صبي"،  و يعلق رجائي"هذا يعني أنه كان يحمل البندقية وهو ابن أربعة عشر سنة، لأن الناس كانوا يجتمعون في بيت الإمام عندما يتعرضون لهجوم، فالبيت فيه أبراج يستطيع الناس اللجوء إليها للحفاظ على أنفسهم، منذ تلك السنوات أخذت شخصية الإمام تتبلور"، ويضيف رجائي نقلًا عن الإمام:" كنت أذهب للبرج أنا و أخي ونقوم بإطلاق الرصاص والرمي، وأنا أعرف الآن الرماية".

 

فقد الأم..

 مالبث روح الله الذي نشأ يتيم الأب طويلًا في رعاية والدته، ففي العام ١٩١٧م، رحلت السيدة هاجر أم الإمام الخميني، و كان في سن الخامسة عشر، فتكفله أخوه  الأكبر السيد مرتضى بسنديدة.

 

الهجرة من خمين..

و بعد وفاة والدته بعامين كان روح الله أنهى تعليمه في "خمين"، فعرض عليه السيد مرتضى بسنديدة السفر إلى مدينة أراك لمتابعة دراسته الدينية.

يذكر الشيخ المسعودي ماقاله السيد بسنديدة للإمام بهذا الخصوص، فيقول:"قال له: إن شئت أن تكمل تعليمك فأنا مستعد لتأمين كل ماتحتاجه للاستمرار بدراستك من شؤون الحياة مِن مال وبيت و معيشة، تابع دراستك و عد لنا عالما كبيرا" ...

ويعلق الشيخ المسعودي على ذلك بالقول:"ولهذا فإن الإمام يكن لأخيه الأكبر بسنديدة احترامًا كبيرًا ويقول إن لأخي حق الأبوة في عنقي"

 

الانتقال إلى قم المقدسة..

 و في العام ١٩١٩م، غادر الإمام "خمين" و لم يكن بلغ الثامنة عشر من عمره إلى "أراك"، إلا أن المدرسة الدينية مالبثت أن انتقلت إلى مدينة "قم  المقدسة" و لا زالت فيها.

وفِي قم، أكمل السيد روح الله كتاب " المطول " (في علم المعاني والبيان) على يد الميرزا محمد علي الأديب الطهراني، و درس السطوح على يد آية الله السيد محمد تقي الخوانساري و آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني، كما أتمّ دروس خارج الفقه والأصول على يد زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي.

 

و قل ربّ زدني علما..

لم يكتفِ السيد روح الله بدراسة اللغة العربية والدروس الفقهية والأصولية، بل راح ينهل من العلوم الأخرى، فدرس الرياضيات والهيئة والفلسفة على يد السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية على يد الميرزا علي الأكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية على يد الشيخ محمد رضا المسجد شاهي الأصفهاني، ودرس الأخلاق والعرفان على يد الميرزا جواد الملكي التبريزي ثم درس أعلى المستويات من العرفان النظري والعملي، و لمدة ستة أعوام على يد الميرزا محمد علي الشاه آبادي.

و يقول الشيخ عراقجي الهمداني، تلميذ الإمام الخميني "قدس سره":" كان الإمام تلميذًا مميزًا للمرحوم الشيخ محمد علي أصفهاني الشاه آبادي، و كان مميزًا في مجالي الفلسفة و العرفان فقد درس عنده حوالي السبع سنوات، و كان درس الفلسفة لبعض الوقت عند المرحوم السيد حكيمي، كما درس عند السيد أبو الحسن القزويني، و الذي يعد من كبار العلماء و المعروف كفيلسوف و كفقيه، و المدفون في قم، لكن الجزء الأكبر من دراسته كان عند المرحوم شاه آبادي"

 

وفِي الليل صافّون أقدامهم..

و خلال إقامة الإمام الخميني "قدس سره" في مدينة قم شاع عنه الزهد والتواضع والتعبد والتقوى بين القريب والبعيد.

و ينقل الباحث غلام علي رجائي، أن الإمام و عندما كان شابًا، كان من الذين لا يمنعهم شيء، و لا حتى الثلج و البرد من القيام لله و مناجاته، ويقول: "في إحدى ليالي الشتاء و التي كان الثلج ينزل فيها على قم كنا نرى الإمام في مدرسة دار الشفاء، في البرد الشديد الذي لم يكن أحد فيه أن يخرج من غرفته، ليتوضأ و يصلي صلاة الليل. يخرج الإمام الطالب الشاب ليكسر الثلج بيده و يتوضأ بهذا الماء البارد، و يقف لصلاة الليل"

 و يضيف رجائي:"يقول أحد جيرانه في قم استيقظت لصلاة الصبح قبل الأذان بقليل فسمعت صوت بكاء، فظننت أن أحدهم يبكي لمشكلة ما قد واجهته، ذهبت فرأيت أن الأمر ليس كذلك فقد كان رجلا مصليا في البستان المجاور و هو يبكي، سررت لهذا المنظر كثيرًا، من هذا الذي يقف في مثل تلك الساعة متهجدًا، انتظرت حتى فرغ من الصلاة فوجدت أنه السيد روح الله الخميني"

 

حفظًا للحوزة..

بالرغم من المكانة التي وصلت لها الحوزة القمية في ذلك الوقت، إلا أن معظم علمائها فضلوا عدم الخوض في السياسة، بسبب التهميش و الحصار الذي تعرضت له الحوزة في ظل حكم السلالات الملكية لإيران، مما اضطر علماء الدين إلى اعتزال الأمور السياسية لئلا تُمس الحوزة.

 و يقول السيد جعفر كريمي، (عضو منظمة فدائيان إسلام منذ العام ١٩٥٠م): " كان المدرسون وعلماء الدين في تلك الفترة يفكرون في تعلم الأحكام الشرعية، وبيان مسائل الحلال والحرام فقط، وما كانوا يهتمون بالمسائل الاجتماعية والسياسية، للبلاد الإسلامية و للمسلمين"

 

روح الله و السياسة..

كان عدد من أساتذة الإمام من كبار قادة "ثورة المشروطة"، كالتبريزي و الآبادي و الخونساري، و هذا مما ساهم في صقل شخصية روح الله الصغير، لتقود فيما بعد ثورة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا، ثورة أحيت الأمة الإسلامية وأيقظت فيها روح الإسلام المحمدي الأصيل.

كان الإمام  في ظل أجواء انعزال الحوزة القمية عن السياسة، يذهب إلى مبنى البرلمان في طهران، و يحضر جلساته، و يستمع إلى خطب و مداخلات النائب آية الله حسن المدرس أبرز الشخصيات المعارضة للحكم الملكي آنذاك.

 و يقول حميد أنصاري، رئيس مركز نشر و حفظ آثار الإمام الخميني: "كان الإمام الخميني يحتفظ بعلاقة مستمرة مع الشهيد المدرس، وقد أشار الإمام إلى هذه الحقيقة فيما تركه من تراث يذكر فيه ذلك، ويقول نعم أنا كنت موجودًا في المجلس الذي كان آية الله المدرس عضوًا فيه، أو في مجلس الشورى الوطني في تلك الفترة، و الذي كان يناقش بعض المسائل السياسية."

 

نهاية الحكم القاجاري..

بعد انتصار بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، قمت بتعيين حكومة إيرانية جديدة، في العام ١٩١٩م برئاسة وثوق الدولة، و الذي وقع مع بريطانيا معاهدة تقضي بأن تدار الشؤون العسكرية و المالية تحت إشراف المستشارين الإنجليز.

 عارض السيد حسن المدرس القانون، وضغط على الملك القاجاري أحمد شاه لرفض الضغوط الإنجليزية، وتصاعدت الخلافات، وازداد التوتر إلى أن قام الشعب بثورتين كبيرتين، في شمال البلاد و جنوبها، وَ قاد الحركة العسكرية في آذربيجان النائب الشيخ محمد الخيباني، عضو البرلمان الإيراني، و الميرزا كوجك خان شمالا، و أعلنا الجهاد ضد الحكومة مما دفع وثوق الدولة إلى الاستقالة..

في ظل هذه الظروف عينت بريطانيا ضياء الدين الطباطبائي وهو صحافي إيراني، رئيسًا للوزراء، الذي اتفق مع الضابط في الجيش الإيراني رضا شاه على احتلال العاصمة طهران، و إخراج الثوار منها.

أمر ضياء الدين باعتقال كافة المعارضين، وزجهم في السجن و في مقدمتهم رئيس كتلة طهران في البرلمان الإيراني السيد حسن المدرس، وبعد ثلاثة أشهر استقال ضياء الدين لصالح الضابط رضا شاه الذي أسقط الملك القاجاري أحمد شاه، وأعلن نفسه في العام ١٩٢٦م ملكًا على إيران.  

و بذلك انتهى العهد القاجاري و بدأ العهد البهلوي في إيران، و في الوقت الذي كان روح الله طالبًا شابًا لكن روح الثورة الوقّادة تشتعل بين جنبيه..

 

شخصية مميزة..

ينقل الشيخ حيدر علي جلالي خميني، تلميذ الإمام ١٩٥٠-١٩٦٤م، قصة حول ذلك، فيقول:"يروي لنا الشيخ يوسف بور قائلًا: كنا في المدرسة الفيضية نستمع إلى درس المرحوم الشيخ الحائري في إحدى الليالي، و كان الشيخ يتكلم بصوت عال عند شرحه للدرس، فرأينا شابًا قد نبتت لحيته حديثًا جاء وجلس أمام الشيخ، و قال : هل أستطيع أن أطلب منكم أن تخفضوا من صوتكم قليلًا عند شرحكم للدرس، فنحن نقوم بالمطالعة في هذه الغرفة المجاورة لكن صوتكم العالي يمنعنا من ذلك، يقول الشيخ يوسف عندها نظر إليه الشيخ الحائري وقال: بكل سرور أيها السيد، سأتكلم بصوت منخفض، و تابعه الشيخ بنظره و قال: سيكون لهذا الشاب عطاء عظيم في الإسلام وفي هذه البلاد"


المصادر:
- وثائقي روح الله الإمام الخميني، قناة المنار
- شبكة المعارف الإسلامية

أضيف بتاريخ :2017/06/05

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد