من هنا وهناك

بي بي سي: حبوب " #التونكا" نكهة الطعام الشهية التي تحتوي على سم قاتل

 

تتميز حبوب التونكا بنكهتها القوية التي كانت سببا في إقبال الطهاة و صناع الأطعمة عليها، و إضافتها إلى أطباق الحلويات. لكن المشكلة أنها تحتوي على مركب كيميائي قد يؤدي إلى الوفاة لو تم تناوله بكميات كبيرة.

يعد استخدام حبوب التونكا في الطعام محظورا في الولايات المتحدة الأمريكية، و لهذا تشن وكالات إنفاذ القانون حملات تفتيش على المطاعم بحثا عن هذه الحبوب، كما تسببت في نفوق أعداد كبيرة من الحيوانات. و مع ذلك، يحصل عليها الطهاة من تجار يهربونها إلى داخل الولايات المتحدة.

 وحبوب التونكا عبارة عن حبوب سوداء مجعدة، تشبه الزبيب الطويل، وهي بذور عطرية تؤخذ من شجرة ضخمة في غابات الأمازون المطيرة.

و تضفي حبوب التونكا، إذا بشرتها على أطباق الحلويات أو مزجتها بالشراب المركز، نكهة فائقة الروعة، إلى درجة أنها سميت العنصر الأطيب مذاقا على الإطلاق.

و بحسب وصف بعض مواقع الإنترنت، تفوح من هذه الحبوب رائحة عشبية منعشة ممزوجة مع أريج الفانيليا و العرقسوس و الكراميل و القرنفل، ليكتمل ذلك بدفء حبوب التونكا و لمسات من رائحة زهرة الماغنوليا.

يقول توماس راكويل، كبير طهاة المعجنات بمطعم "لي بيرناردين"، الحائز على ثلاث نجوم بتصنيف ميشلان للمطاعم في نيويورك: "هذه الحبوب طيبة المذاق بالفعل، ما دمت لا تسخدم كميات كبيرة منها، فالكثير منها قد يؤدي إلى الموت".

و بالطبع هذا غير مطمئن. و يحظر بيع حبوب التونكا في الولايات المتحدة لغرض الأكل منذ عام 1954، و يعد الطعام الذي يحتوي على التونكا ملوثا، إلا أن المطاعم الحائزة على نجوم ميشلان، لم تمتنع عن إضافة هذه الحبوب إلى المأكولات التي تندرج ضمن قائمة الأطعمة التي تقدمها، من نيويورك إلى كاليفورنيا. بل إن الولايات المتحدة في المقابل هي أكبر مستورد لحبوب التونكا في العالم.

و تحتوي حبوب التونكا على تركيزات استثنائية من مركب الكومارين الكيميائي، الذي تستمد منه الحبوب هذا المذاق، و يوجد مركب الكومارين في مئات النباتات، كالحشائش، و اللافندر، و الكرز. وإذا لم تكن قد رأيت حبوب التونكا من قبل، فلعلك تعرف رائحتها من دون أن تدري.

استُخلص الكومارين من حبوب التونكا للمرة الأولى في عام 1820، ويستمد الكومارين اسمه من كلمة "كومارو" التي تعني شجر التونكا في بعض لغات دول حوض الكاريبي، وبعدها بفترة وجيزة نجح سير ويليام هنري بيركين، وهو كيميائي بريطاني اشتهر باختراع أول صبغة اصطناعية، في تحضيره في المعمل.

و في الأربعينيات من القرن الماضي، لاقى الكومارين الاصطناعي رواجا كبيرا، وكان يباع بثمن زهيد بوصفه أول الإضافات الغذائية غير الطبيعية، و انتشر استخدامه كبديل للفانيليا الطبيعية وأضيف إلى الشيكولاتة، والحلويات ومكسبات الطعم اللاذع لشراب الكوكتيل، والفانيليا السائلة المركزة، وحتى المشروبات غير الكحولية.

و سرعان ما أضيف إلى التبغ وأصبح أحد مكوناته الرئيسية، واستخدم في صناعة العطور ليضفي عليها أريجا مفعما بالروائح المختلفة.

و لكن ثمة دراسات أجريت على كلاب وفئران كشفت عن سمية هذه الحبوب، إذ يسبب تناول كميات ضئيلة منها نسبيا أضرارا بالغة للكبد في غضون أسابيع قليلة، حتى إن خمسة جرامات منها فقط، أي قدر ملعقتين صغيرتين، كانت كافية لقتل الخراف. و قد حظر القانون استخدام حبوب التونكا والكومارين في الطعام.

و رغم ذلك، لم تختف حتى الآن حبوب التونكا ومركب الكومارين من الأسواق. يقول ليبراندت، أحد ملاك مطعم "كورتون" في نيويورك سابقا: "في الحقيقة أنا أعرف أين سأجد حبوب التونكا، فليس من الصعب الحصول عليها".

بيد أن الحكومة لم تتهاون في تطبيق الحظر على حبوب التونكا منذ نحو عقد مضى، وشنت حملات على العديد من المطاعم الفاخرة.

و ذكر غرانت أشاتز، كبير الطهاة بمطعم "ألينيا" بولاية شيكاغو، لمجلة "ذي أتلانتك": "قال لي مورد حبوب التونكا، 'لا تستغرب إن دهمت إدارة الأغذية والأدوية مطعمك قريبا'. وبعد يومين فقط، جاء أفراد تابعين للإدارة وقالوا لي: 'هل من الممكن أن نلقي نظرة على خزانة البهارات؟'"

لا تزال إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية تعثر على منتجات تحتوي على حبوب التونكا والكومارين في المطاعم المكسيكية التي تباع تحت مسمى "مكسبات طعم الفانيليا" أو "الفانيليا"، لتغطي على رداءة مستوى الأطعمة.

و يقول راكويل: "كنت أتحدث إلى أحد موردي الفانيليا مؤخرا، وعرض علي معجون حبوب التونكا. وأجبت على الفور، 'لو أردت أن أستخدم حبوب التونكا، لاستخدمتها'".

و إذا لم تكن من هواة المطاعم الفاخرة، فمن الممكن أن تحصل على جرعة من الكومارين من مصادر أخرى. فإن إضافة الكومارين إلى التبغ ومواد التجميل لا تنافي القانون على الإطلاق، رغم أنه من السهل أن يمتصها الجسم عبر الجلد وبطانة الرئتين الرقيقة.

و يستخدم مركب الكومارين بكثرة في تصنيع المنظفات وصابون الاستحمام السائل، وصابون اليدين، ومزيلات العرق، والعطور الأكثر مبيعا والأوسع انتشارا مثل "كوكو مادموازيل" التي تنتجها شركة شانيل، و"جوب" للرجال. بل وأصبحت تضاف أيضا إلى السجائر الإلكترونية.

و ربما توجد في خزانة مطبخك منتجات تحوي مركب الكومارين. فإن القرفة الحقيقية التي تأتي من اللحاء الداخلي لشجرة القرفة السيلانية، وموطنها الأصلي في سريلانكا، تحتوي على مستويات ضئيلة للغاية من الكومارين، وثبت أن لها فوائد طبية.

إلا أن القرفة التي توجد في رف البهارات بمطبخك ربما لا تكون قرفة حقيقية، فالقرفة التي تباع في الأسواق ونعتقد أنها قرفة حقيقية، ليست قرفة على الإطلاق، بل نوع من البهارات يشبه القرفة يأتي من جنوب شرق آسيا ويستخلص من لحاء شجرة السنا، ويسمى القرفة الصينية.

و هذا النبات لا يمت بصلة لشجرة القرفة الحقيقة، وفوق ذلك، فإن نسب الكومارين في هذا النبات أعلى من القرفة الحقيقة بنحو 25 ألف ضعف.

و بينما لم تنظم الولايات المتحدة كميات الكومارين في القرفة، فإن الاتحاد الأوروبي وضع حدا أقصى للكميات التي لا ينصح بتجاوزها يوميا من القرفة الصينية، فإن تناول معلقة صغيرة واحدة فقط من القرفة الصينية في اليوم سيشكل مخاطر حقيقية على صحتك.

و في عام 2013، كادت الدنمارك تحظر لفائف القرفة التي يعشقها الشعب الدنماركي، بعد أن كشفت دراسة عن أن نحو نصف الفطائر التي خضعت للاختبار تضمنت مركب الكومارين بنسب تجاوزت الحد الأقصى المسموح به في الطعام.

و يقول نيكولاي بالين، المتخصص في كيمياء الطعام بإدارة الأغذية والطب البيطري الدنماركية، والذي أعد الدراسة: "قلما نكتشف في نسبة كبيرة إلى هذا الحد من منتجات الأطعمة مركبا سميا يتجاوز الحد الآمن المسموح به يوميا. وما يبعث على القلق أن الكثير من هذه المنتجات تستهدف الأطفال".

لكن ما هو حجم خطورة الكومارين؟ كشفت إحدى الأوراق البحثية أن الكومارين لم يتسبب في حالة وفاة واحدة بين البشر، وأطلقت دعوات لرفع الحظر عن الكومارين. إلا أنه ينطوي على مخاطر أخرى.

يعد الكومارين من المركبات السمية التي تؤذي الكبد في الغالب، والمعروف أن الكبد يلعب دورا محوريا في التخلص من السموم وطردها من الجسم. ولأن الكبد هو خط الدفاع الأول في مواجهة السموم، فإنه يتمتع بقدرة استثنائية على التعافي، إذ يستطيع الكبد أن يعيد بناء نفسه من ربع حجمه الأصلي.

و يعد الكومارين، كشأن الكحول، من المواد التي تؤذي الكبد على المدى البعيد، لأنه يلحق به أضرارا متكررة.

و في التسعينيات من القرن الماضي، نُقلت امراة إلى مستشفى فرانكفورت الجامعي بعد أن أصيبت بمرض خطير في الكبد، و شخصت حالتها على الفور بأنها تعاني من "التهاب الكبد الناتج عن تناول الكومارين"، إلا أن هذه السيدة في الواقع لم تفرط في تناول حبوب التونكا، بل كانت تتناول عقار "الوارفارين" المضاد للتخثر.

ما الذي يجعل هذا المركب مضرا؟
بدأ الأمر في عام 1921، حين أصيبت مئات الرؤوس من الماشية في أمريكا الشمالية وكندا بمرض غامض، ولم يتمكن الأطباء من إجراء العمليات التي كانت تجرى في المعتاد لعلاج الحالات المشابهة، مثل عملية إزالة القرون، خشية أن تنزف الماشية حتى الموت. وكان المزارعون يجدون الماشية تسقط فجأة على الأرض وتحاط ببركة دماء.

كانت الماشية تأكل عشبة أكليل الملك أو البرسيم الأصفر الحلو، وهي عشبة مرّة استوردها المزارعون من أوروبا، حيث تنمو بكثرة. ثم أتلفت الأمطار الغزيرة التي تعرضت لها البلاد في هذا الوقت البرسيم الحلو، ولم يتمكن المزارعون من شراء علف جديد.

واستمرت هذه الأزمة لسنوات، حتى قرر أحد المزارعين، الذي كان في حاجة ماسة للمساعدة، أن يتوجه بنفسه إلى معهد أبحاث خريجي جامعة ويسكونسين (وارف)، واصطحب معه بقرة نافقة ودلو مليء بالدم الذي لم يتخثر. وهناك عكف عالم الكيمياء الحيوية كارل بول لينك على دراسة أسباب هذا المرض.

تحتوي عشبة إكليل الملك على تركيزات عالية من الكومارين، الذي حولته الفطريات التي تكونت على سطحه، بعد فساد المحصول، إلى ديكومارول، وهو عامل فعال مضاد للتخثر. ومهّد هذا الاكتشاف لتطوير عقار الوارفارين، الذي يعد اليوم أحد المبيدات الفعالة للأفات، وواحدا من العقاقير الأوسع انتشارا في العالم.
فرغم أن الكومارين ليس عاملا مضادا للتخثر، فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا بمضادات التخثر.

أما عن المريضة التي كانت تعاني من مرض الكبد، فهناك إنزيم في الجسم يبطل مفعول الكومارين، ويعتقد العلماء أن الوارفارين والكومارين يؤذيان بشكل خاص من لديهم نسخة مغايرة من هذا الإنزيم. وما من سبيل لمعرفة ما إن كان لديك هذه النسخة من الإنزيم أم النسخة المغايرة لها، إلا بزيارة لقسم الطوارئ أو بإجراء تحليل جيني.

يقول ديرك لاشينميير من معمل الأبحاث الكيميائية والبيطرية بمدينة كارلسروه الألمانية: "إن تأثير الكومارين لا يختلف عن تأثير سائر المركبات، ولا سيما الكحول، على الكبد. ولهذا فلا يمكن أن تعرف ما إن كان مرض الكبد ناتجا عن تناول الكومارين أم غيره من المركبات".

في عام 2010، وصل عدد الوفيات الناجمة عن الإصابة بمرض الكبد إلى نحو مليون حالة وفاة، أي ما يعادل اثنين في المائة من مجمل حالات الوفاة، وربما لن نعرف مدى ارتباط هذه الحالات بتناول الكومارين. ولكن تقريرا صدر مؤخرا خلص إلى أنه لا يمكن استبعاد المخاطر الصحية التي يشكلها تناول كميات كبيرة من الكومارين.

أضيف بتاريخ :2017/06/24

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد