آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عبد الحي زلوم
عن الكاتب :
مستشار بارز لشؤون البترول منذ أكثر من 45 سنة. أنهى دراسته الجامعية الاولى والعليا في الهندسة والادارة من جامعات تكساس، لويزيانا، كاليفورنيا، و هارفرد في الولايات المتحدة بعد انهاء دراسته الثانوية في القدس. عمل في الولايات المتحدة واوروبا. كما ساهم في الاعمال التأسيسية للعديد من شركات البترول الوطنية العربية في الخليج والعراق وافريقيا،

لهذه الأسباب ستنسحب أمريكا من سوريا وستفشل “خيبة” القرن

 

د. عبد الحي زلوم
 
بعد أكثر من ربع قرن من إعلان جورج بوش الأب النظام العالمي الجديد والذي تم  حفل تدشينه بحرب  الخليج الأولى  سنة 1991، وبعد  أن أشهرت الولايات المتحدة  نواياها بأن تصبح القوة الوحيدة في العالم، و أنها لن تسمح ببروز أي قوة أو تحالف قوى لمنافستها كما جاء في (مبدأ بوش الابن)، وبعد أن أعلن بوش الابن أن مَن ليس مع الولايات  المتحدة فهو ضدها  والويل من نصيبه، وبعد نشر الويل والحروب ضد العالم العربي والإسلامي تحت شعار كاذب هو (الحرب على الإرهاب)، وبعد أن قُتل  وجُرح عشرات آلاف الجنود الأمريكيين وخسارة ما يزيد عن  7000 مليار دولار كادت تطيح بالنظام المالي العالمي والأمريكي برمته في 2008 ، وصلت العولمة والأحادية الأمريكية إلى طريق مسدود داخل الولايات المتحدة وخارجها.  جاء جورج دبليو بوش عبر ثورة دستورية بواسطة المحكمة العليا  مع أن منافسه حصل على عدد أكثر من الأصوات. وزادت سياسات العولمة السياسية و الاقتصادية من الديون على الشعوب ومن الحروب  كما زادت أصحاب الرأسمال العالمي ثراء ومن شعوب  العالم بما فيهم شعب الولايات المتحدة، فقراً وقهراً. ففي الولايات المتحدة اتسعت الهوة بين  400 أمريكي أصبحوا يمتلكون أكثر مما يمتلكه 150 مليون أمريكي. ثار المهمشون على هذا الظلم  فجاءت الإضرابات في أوروبا والقلائل في بلدان العالم النامي، واجتمع المهمشون الأمريكيون على غير هدى يريدون  الخروج مما هم فيه من قبضة مؤسسة الدولة العميقة . كانوا تماماً كما يُشّبه المثل الصيني الأوضاع في عصر عولمتنا هذه “كسمكة كبيرة أخرجت لتوها من الماء تتحرك بعنف علها تستطيع استعادة مكانها . وفي هذه الحالة لا تسأل السمكة إلى أين تأتي بها حركتها التالية لأنها تشعر فقط أن وضعها الحالي لا يمكن احتماله ، وهو أصلاً غير قابل للاستمرار”. قوانين التهميش الناتجة عن العولمة هي من أتت بالسترات الصفر في فرنسا والربيع العربي سابقاً وما ستأتي به لاحقاً . ( ثورة المهمشين ) في الولايات المتحدة أتت بترامب  فأصبحوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار،  كما نتج عن الربيع العربي كالمستجير من الجرب بالطاعون.

بالنسبة للشعب الأمريكي  فبعكس الاتحاد السوفيتي الذي حارب الأديان باعتبارها أفيون الشعوب وجد انتهازيو أصحاب النظام الرأسمالي الأمريكي استعمال هذا الأفيون المجاني لتخدير الشعب الأمريكي  فنشروا وروجوا للصهيونية المسيحية (البروتستينية) فاعتنقها أكثر من 70 مليون أمريكي فصاروا صهاينة أكثر من الصهاينة اليهود علهم يجدون فيها الخلاص من وضعهم البائس في  الدنيا ولو في الآخرة.  حين أعلم احد (النبهاء) مسؤولاً كبيراً في مجموعة الضغط الصهيونية آيباك بان معتقدات الصهاينة المسيحية  تعني المواجهات مع اليهود  عند رجوع المسيح فأجابه مسؤول آيباك:” عندما نرى المسيح قد وصل إلى جبال القدس سنتدبر أمرنا حيث ذاك ” .

هولاء مع المهمشين الآخرين هم من إنتخب ترامب وكان معه بعض الوصوليين وبعض المنشقين عن الدولة العميقة. لم يكن لهؤلاء أجندة سياسية  واضحة. كل ما يعرفونه هو أن وضعهم الحالي غير قابل للاستمرار.  خبراء العلاقات العامة الذين وظفهم ترامب في حملته الانتخابية اختصروا مطالب هؤلاء المهمشين بكلمتين :”أمريكا أولاً”. وهذا يعني الخروج عن العولمة والرجوع إلى أمريكا داخل حدودها.  وفعلاً عَبَر عن ذلك ترامب فعلاً وقولاً . قال في الأمم المتحدة أنه ضد العولمة وفعل بأن أصدر قوانين حمائية تتناقض مع ألف باء التجارة الحرة والتي هي عماد العولمة فازداد النظام الاقتصادي وبالتالي السياسي العالمي اضطراباً وما زال يعاني من هذه الارتدادات .  كان ما اتفق عليه أنصار ترامب أن العولمة كانت مصيبة عليهم، فهي التي تسببت في نقل الوظائف إلى الخارج حيث العمالة الرخيصة وهي التي نقلت أغلبية الاستثمارات إلى الخارج أيضاً لِتَفوق عائد المال هناك عنه في الولايات المتحدة مما اثر على النمو والذي تم الاستعاضة عنه بالديون عبر سندات الخزانة الأمريكية والذي نتج عنه إهمال البنية التحتية داخل الولايات المتحدة نفسها.  وهنا أرى نبذة بسيطة من التاريخ ضرورية لتساعد على فهم ما يجري اليوم.

 قبيل الحرب العالمية الثانية  كان هناك تياران أكبرهما تيار الاكتفاء الذاتي والانكفاء داخل الولايات المتحدة. فهي تتميز بكونها قارة يحميها محيطان كبيران على جانبيها وبها من الخيرات ما يكفي بل ويزيد عن تأمين حياة كريمة لأبنائها . وكان هذا التيار يطالب بعدم الانجرار إلى الحرب العالمية الثانية التي كانت على وشك الوقوع.  كان هذا التيار هو تيار الأغلبية حتى داخل الكونغرس الأمريكي.

في المقابل كان هناك تيار أصحاب البنوك والشركات الكبرى والتي أوصلت تكنولوجيا الإنتاج الحديث والاتمتة إلى طاقات إنتاج تحتاج إلى أسواق العالم بل وموارده الطبيعية لزيادة أرباحها . قرر أصحاب المصارف والشركات تشكيل لجان دراسات مشتركة فائقة السرية مع وزارة الخارجية الأمريكية بِمُسمى (دراسات السلم والحرب) . كانت لجان هذه الدراسات برئاسة ازيا بومن رئيس جامعة جونز هوكينز. ومولت عائلة روكيفلر هذه الدراسات، كما ساهمت من قبل في إنشاء منبر المصرفين وأصحاب الشركات الكبرى  تحت اسم (مجلس العلاقات الخارجية ). كان معظم أعضاء لجان الدراسات قد جاءت من هذا المنبر.

 كان من أهم القرارات التي أوصت بها تلك اللجان والتي بدأت أعمالها قبل الحرب العالمية الثانية بشهور وانتهت بانتهائها القرارات التالية والتي اعتمدها الرئيس الأمريكي روزفيلت والتي جاءت بالعولمة وأدوات تنفيذها وملخصها :

ـ يجب على الولايات المتحدة دخول الحرب العالمية الثانية لخلافة الامبراطورية البريطانية للمحافظة على النظام الرأسمالي الانغلوساكسوني على أن تكون المملكة المتحدة هي المستشار الامبريالي للولايات المتحدة وأن يصبح الدولار هو عملة الاحتياط العالمي بدلاً من الاسترليني .وأن وسائل الاستعمار القديمة من الاحتلال المباشر قد انتهت ويمكن الوصول إلى نفس الأهداف عبر وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة .

ـ أوصت تلك اللجان بتكوين ثلاث مؤسسات اقتصادية للسيطرة على العالم وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الحرة )والتي تأخر الموافقة عليها مباشرة وتم الاستعاضة عنها مؤقتاً بالغات GATT .

ـ وللإدارة السياسية تم اقتراح تأسيس أمم متحدة تستطيع الولايات المتحدة بنفوذها أن تمرر قراراتها ولها الحق في نقض أي قرار لا تبتغيه .
ـ ووافق الرئيس روزفيلت على تلك القرارات وشارك جون كينز  البريطاني و ديكستر وايت من وزارة الخزانة الأمريكية في صياغة تفاصيل أدوات الاستعمار الجديد الاقتصادية (العولمة ) و وضعت الخارجية الأمريكية تفاصيل الأمم المتحدة وتبرع روكيفلر بالأرض التي بنيت عليها البناية الحالية للأمم المتحدة .

أصبح هدف الولايات المتحدة عالم واحد تحت هيمنتها في ظل نظامها الرأسمالي . وبدأت أبواق الإعلام الرسمي الأمريكي المملوك من أصحاب تيار العولمة بالتبشير بها ، وكان أولهم  هنري لوس رئيس تحرير مجموعة مجلات تايم ولايف الاكثر انتشاراً في الولايات المتحدة حيث كتب مقالاً افتتاحياً في مجلة لايف اسماه ب(القرن الأمريكي) وذلك سنة 1941. والناشر لوس ، كما هو الحال مع بوش  الأب والابن، كان عضواً بارزاً في جمعية سكال آند بونز Skull and Bones  الفائقة السرية ، التي تضم عدداً من النخبة في جامعة ييل .Yale  جاء في مقال لوس الذي أعلن فيه عن الهدف الأمريكي بالسيطرة على العالم مع نهاية الحرب : “علينا القبول وبشعور ملؤه السعادة ما يشكل واجبا علينا وفرصة لنا ، باعتبارنا أقوى الدول وأكثرها أهمية في العالم ، وبالتالي فرض نفوذنا الكامل خدمة للأهداف التي نراها مناسبة وبالوسائل التي نختار” . عبارات لوس هذه  تم تداولها على صفحات الجرائد والمجلات مثل الواشنطن بوست ، والريدرز دايجست  Reader’s Digest،  لتصل إلى أوساط واسعة .. ليس من الصدف تأسيس منبر (القرن الأمريكي الجديد ) عند إشهار النظام العالمي الجديد والذي أتي منه أغلبية طاقم بوش الابن ، بل من المثير للاهتمام أن الرئيس بوش الابن استعار عبارة لوس الشهيرة نفسها “واجبنا وفرصتنا” في خطابه أمام العسكريين في كلية وست بوينت ، عندما أطلق عقيدته الخاصة بالحروب الإجهاضية لتطبيق النظام العالم الجديد .

يمكننا القول بأن المنظومة الفكرية السياسية والاقتصادية للعولمة قد أعلنت إفلاسها. ففي العراق نجح الغزو الأمريكي المبني على أكاذيب في إلحاق الأضرار في بنية الدولة لكنه لم يحقق أهدافه بل إن كلفة الحرب المباشرة وغير المباشرة قد كادت تطيح بالنظام المالي الأمريكي بل والعالمي وأن بقية المغامرات الأمريكية في منطقتنا لم تحقق أهدافها أيضاً . فالحرب في أفغانستان قد أصبحت أطول الحروب الأمريكية في تاريخ الولايات المتحدة ، وتمّ الإعلان عن سحب نصف القوات الأمريكية هناك مع إعلان سحب القوات الأمريكية من سوريا ودونما قيد أو شرط تماماً كما فشلت حروب الولايات المتحدة بالوكالة عبر الكيان الصهيوني ضد المقاومة في لبنان حيث انسحبت قوات الاحتلال الصهيوني دون قيد أو شرط في سنة 2000 كما خسرت حربها سنة 2006 بالرغم من استعمالها كافة أدوات التدمير لأكثر من 33 يوم،  وفشلت في حربها مرتين على غزة والتي ليست أكثر من سجن كبير مقاوم مساحته اصغر من مساحة مزرعة بوش في تكساس . فهل يمكننا أن نقول أن ذلك الكيان هو فعلاً  أوهى من خيوط العنكبوت وأن صفقة  خيبته ستنقلب إلى لعنة على أصحابها من الصبية المراهقين سياسياً؟

لقد بدأ الانسحاب التدريجي من العولمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ عهد أوباما . ففي ولايته الثانية وفي مقابلة مع مجلة اتلانتك عدد ابريل 2016 قال الرئيس أوباما أن منطقة الشرق الأوسط ليست بالأهمية الأولى للولايات المتحدة حيث أن لها أولويات أخرى في شرق آسيا وأمريكا الجنوبية. وهذا ما تم تسميته (مبـدأ اوباما ). وفي نفس المقابلة قال أوباما  أن إيران ليست العدو للسعودية وإنما العدو هو من داخلها من شباب عاطل عن العمل وغالبية فئات المجتمع المهمشة حيث يستأثر القليل من المتنفذين بالموارد المالية والاقتصادية .

نحن والعالم اليوم نعيش في مرحلة حرجة وخطرة من التاريخ حيث أننا في مرحلة انتقالية ما بين عصرين ، عصر ما قبل وعصر ما بعد الامبراطورية الأمريكية . وهو إلى حد بعيد يشبه ايام الاتحاد السوفياتي قبل انهياره بسنوات قليلة . ومما يزيد من الخطورة ان من يدير الامبراطورية المتهاوية نفرٌ من المتعصبين وقليلي الخبرة والصبية.
 انهار الاتحاد السوفياتي ولكن بقيت دوله مفككةً وشبه فاشلة خلال عقد من الزمان لكنها استرجعت قواها. أما الولايات المتحدة فمقدراتها البشرية والمادية والتكنولوجية هائلة ، لكنها ستكون دولة كبرى بلا عولمة وأجندات عالمية مختلفة . ستتغير التحالفات وسيكون لذلك انعكاسات كبيرة جداً على العالم ، وسيكون من اكبر الخاسرين أصحاب النظام الرسمي العربي إلا من رحم ربي وبدأ الخروج من خيمة الهيمنة الأمريكية وبدأ بنسيج استراتيجيات وتحالفات جديدة تنبع من مصالح شعوبه وتعتمد على مقدراته وستكون دولة الكيان الصهيوني )وهي التوأم الذي رعاه النظام الرسمي العربي( من اكبر الخاسرين وبظني أنها لن تصل إلى عمر دولة الصليبين بل ولن تصل الى نهاية هذا القرن الحالي بالرغم من تطبيع المطبعين فلسطينيين كانوا أم عرباً أم أعراباً . كذلك فإن الدول التي يفترسها صندوق النقد الدولي والفساد مجتمعان سيصيبها تغيراتٌ عميقة إذا لم تبادر بالإصلاح وإعادة بوصلتها السياسية والاقتصادية قبل فوات الأوان.

وختاماً أقول إن الأزمة التي نعيشها هي (أزمة نظام: الرأسمالية والعولمة في مأزق) وهو بالضبط عنوان كتابي الذي أصدرته عند نشوب أزمة 2008 الاقتصادية مبيناً أن النظام الرأسمالي وعولمته قد وصلا إلى نهاية المدة. كانت افتتاحية كتابي ذلك اقتباساً للبروفيسور ليستر سي ثورو الأستاذ بإحدى اعرق الجامعات الأمريكية (MIT) عن كتابه (مستقبل الرأسمالية) جاء فيه: “إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها. ولكن، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام الرأسمالي نفسه “.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/12/31

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد