آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
طراد بن سعيد العمري
عن الكاتب :
باحث وكاتب في العلاقات الدولية؛ الشئون الإستراتيجية؛ الدراسات العسكرية؛ المجتمع الخليجي؛ وشئون العمل والبطالة

راح الوزير .. جاء الوزير .. ثم ماذا؟

 

طراد بن سعيد العمري ..

ذهب العساف وجاء الجدعان، وزير مالية أُعفي ووزير آخر عُيِّن. لا نعرف لماذا أعفي إبراهيم العساف، ولماذا عُيّن محمد الجدعان؟ هل أعفي بسبب حلقة “الصدمة” مع داود الشريّان، أم أعفي لإزاحته عن طريق وزارة الإقتصاد والتخطيط المندفعة في التغيير، وسياسة التقشف وزيادة الرسوم وفرض الضرائب  وبرنامج التحوّل الوطني، ورؤية 2030؟ هل كان العساف حجر عثرة أمام اندفاع الحكومة تجاه قضايا ذات علاقة بالنقد والمالية والميزانية؟ لا نعرف جواب لأي من تلك الأسئلة، ولا أظننا سنعرف في المدى المنظور، فوزارة المالية في السعودية هي “الصندوق الأسود” الغامض والمليء بالإسرار. لماذا يتم إعفاء وزير المالية في مثل هذا التوقيت الحرج والحساس مالياً وسياسياً واقتصادياً وإجتماعياً؟ لماذا يتم استبدال وزير يملك من المؤهلات العلمية العالية والخبرات العملية الطويلة ووجه مألوف لدى المؤسسات العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومجموعة العشرين، وتعيين وزير بمؤهلات وخبرات ضعيفة أو متواضعة جداً نسبة إلى سلفه أو نظرائه من وزراء المال والخزانة في العالم؟ ماهو المبتكر والجديد الذي سيقدمه معالي محمد الجدعان، وهل سيكون الوزير الذي يحمي سيادة واستقلال وزارة المالية العتيدة؟ وهل سيزيد من درجة الإفصاح والشفافية بما يعزز الثقة بين كافة الإطراف أصحاب العلاقة مع رؤية 2030 في الداخل قبل الخارج؟ أسئلة كثيرة وعديدة سنحاول مقاربتها في هذا المقال بهدوء.

 

أولاً، (1) لا نظن أن إعفاء الدكتور إبراهيم العساف جاء على إثر حلقة “الصدمة” في 19 أكتوبر، لأن العساف كان أكثر تحفظاً من وزير الخدمة المدنية ونائب وزير الإقتصاد والتخطيط الذي لم يجرؤ على الاعتذار صراحة في حلقة “فُض الاشتباك”، كما سماها مقدم البرنامج. ولازالت الأمنية قائمة لدى الرأي العام السعودي لإعفاءات لا تقتصر على من شارك في “الثامنة”، بل إلى درزينة من الوزراء، لكن الأمل لم ينقطع في الله سبحانه، ثم في ولاة الأمر أن يشمل البقية من الوزراء الدور الثاني من الإعفاءات قريباً؛ (2) لم يبتعد د. العساف كثيراً فلازال وزير دولة وعضو مجلس الوزراء وسيشكل مع زملائه وزراء دولة أقوياء ومؤثرين في مجلس الوزراء مثل: د. مساعد العيبان، د. محمد آل الشيخ، د. عصام بن سعيد، فريق التوازن والرأي الآخر بعيداً عن حقائب وزارية، وهذه سنة حميدة في مجلس الوزراء السعودي. ولذا، فإن الاستفادة من خبرة العساف وموقفه تجاه عدد من القضايا في الحكومة لازال قائماً حتى لو بدرجة أقل.

 

ثانياً، الأجنحة في مجلس الوزراء السعودي أمر ليس بالجديد، وقد ذكر القصيبي، رحمه الله، في كتابه “حياة في الإدارة” كيفية عمل مجلس الوزراء. كما أن التضاد في الرؤية بين المالية والتخطيط ليس جديداً، فالتاريخ يذكر أن في الطفرة الأولى عندما زادت مداخيل السعودية على إثر ارتفاع أسعار النفط كانت هناك أكثر من رؤية: (1) رؤية المالية التي تقضي بالتروي والتدرج  في التنمية لتتماشي مع نمو الفرد السعودي ويستطيع أن يهضم التنمية والتحديث، وتجنيب الفوائض المالية كاسثتثمارات متوسطة وطويلة الأجل؛ (2) رؤية التخطيط التي تتبنى الاستثمار العاجل والسريع وإنفاق العائدات النفطية على البنية التحتية لثلاثين سنة قادمة. أهملت الحكومة حينها رؤية المالية واتجهت إلى رؤية التخطيط، فتم فتح أنبوب النقد ودخلت البلاد مرحلة ثراء فاحش مصطنع ينام فيه البعض ولديه أصول بمئات الآلاف ويصبح في اليوم التالي يملك عشرات الملايين وأدى ذلك إلى استمرار فكر البذخ، أو بدء مرحلة يسميه البعض مرحلة “الهياط” في المجتمع السعودي حتى يومنا هذا بكل مالها وعليها. ولذا فإن اندفاع وزارة الإقتصاد والتخطيط اليوم تجاه إزاحة من يقف في طريقها ليس جديداً وقد لا يزال قائماً إن لم يكن بشكل أشد. فهل تنجح وزارة الإقتصاد والتخطيط في مغامراتها؟

 

ثالثاً، صحيح أن معالي محمد الجدعان لا يملك المؤهلات والخبرة المتوقعة لوزير مالية لدولة كالسعودية، لكن هذا الضعف الذي قد يراه البعض من الممكن أن يتحول إلى قوة إذا: (1) تمكن من استخدام قوته القانونية في كشف الأخطاء التي تم ارتكابها في الماضي أو المتوارية في زوايا غير مرئيّة من رؤية 2030، وما أدت أو ستؤدي إليه من أخطار والعمل على إيقافها أو تجنبها؛ (2) إذا تمكن من استقطاب مستشارين وطنيين تكون مهمتهم نقد ونقض الرؤى البائدة أو السائدة وتبيان مكامن الخلل والمئالات، والحفاظ على سيادة واستقلال الوزارة، مالية أو خزانة، كمؤسسة تعمل صمام أمان يحمي ثروات السعودية النقدية والعينية من العبث والمغامرات الغير محسوبة. ونقترح على الوزير الجديد قراءة حوار ثري أجرته صحيفة الرياض مع الخبير المالي عمار شطا ونشرته صحيفة الرياض في 14 يونيو 2016.

 

رابعاً، كان أول تصريح لوزير المالية الجديد قوله “أثق بالرؤية الإقتصادية”، وقد استوقفنا هذا التصريح كثيراً، هل هو تصريح ولاء وتصفيق لأمير الرؤية الأمير محمد بن سلمان؟ لا نظن، فالأمير ليس بحاجة إلى تصفيق أو تهليل أو تضليل. هل تصريح الوزير الجديد رسالة للداخل أو الخارج؟ والأهم، هل يعني التصريح أن الوزير العتيد، العساف، لا يثق برؤية 2030 أو بعض جوانبها المالية؟ لا نعرف. ما نعرفه أن الأهم ليس ثقة وزير المالية في الرؤية، بل ثقة المواطن والمجتمع في الداخل، والمستثمرين والمؤسسات المالية والإستثمارية في الخارج، وهذا لن يتأتى إلا بأمر أساسي هام هو إعادة وبناء الثقة في وزارة المالية التي يتوجب عليها مراجعة ممارساتها الماضية والبدء في الشفافية والإفصاح والحوكمة، عندها سيكون الوزير الجديد قد أسس لنجاح الرؤية التي يقول أنه يثق بها، بتقوية وزيادة ثقة كافة الأطراف ذات العلاقة.

 

خامساً، المثير، أن وزارة المالية تطالب كافة مؤسسات القطاع الخاص بمزيد من الحوكمة والإفصاح وقد نجحت في ذلك، تقريبا، حتى كادت أن تصل إلى مستوى دول الإتحاد الأوروبي، على رأي خبير. لكن وزارة المالية عجزت إن لم تكن فشلت في أن تنتهج الشفافية والحوكمة والإفصاح في بياناتها وموازناتها وسائر ممارساتها. وزارة المالية السعودية كانت ولا زالت “الصندوق الأسود” الغامض الذي لا يعرف سره أو يدرك كنهه إلا قلة ممن لديهم علم من الكتاب. مطلوب من وزارة المالية أن تفصح عن كل شيء له علاقة بالثروات السعودية في كل ماله قيمة مالية ولا تكتفي بإصدار بيانات لأرقام النقد وما تم تخصيصه لهذه الوزارة أو تلك، فذلك لا يكفي، بل أن البعض قد يراه تضليل وتعمية يساعد على الفساد، كما يثير البلبلة والإستهجان لدى المجتمع عند صدور تقارير دولية، أو مقالات في صحف عالمية، أو تسريب إشاعات يحرج وزارة المالية والحكومة أحياناً.

 

سادساً، وزارة المالية مطالبة بالكشف والإفصاح، على سبيل المثال لا الحصر، عن: (1) مخصصات العائلة المالكة بشكل واضح ومفصل، فمثل ذلك كان يتم في عهد الملك عبدالعزيز وكل ريال أو جنيه يصرف لعائلته أو أهل بيته بكل شفافية ووضوح؛ (2) البنود السرية والمخصصات والعطايا والهبات في الداخل والخارج؛ (3) بيانات ميزانية تشمل كافة الثروات بما فيها الأراضي ذات القيمة التي هي جزء من الثروة سواء منحت تلك الأراضي للأفراد أو الشركات أو المشاريع الإستثمارية أو الترفيهية وقيمتها السوقية؛ (4) الرخص التي تمنحها الحكومة والتي تشكل قيمة عالية وتحتكرها شركات مثل: النقل الجماعي، والأسماك، والغاز والتصنيع؛ (5) إستثمارات التأمينات الإجتماعية ومعاشات التقاعد والصناديق الأخرى المماثلة وأين تستثمر وكيف وأين تنفق.

 

سابعاً، لازالت كثير من الأمور والقضايا ذات العلاقة بالمالية غامضة بالنسبة للمجتمع السعودي وبقدر زيادة الغموض بقدر نقص الثقة، مما يتطلب من وزير المالية الجديد تناولها في أول ظهور له وعلى القنوات الرسمية للإعلام السعودي: (1) الريال السعودي وقيمته وسعر صرفه وارتباطه بالدولار في الحاضر والمستقبل حتى 2020 على الأقل؛ (2) صورة كاملة عن الموجودات والإحتياطيات السعودية من النقد في الداخل والخارج بكل تفاصيلها، وحقيقة ما ذكره د حمزة السالم في مقاله بعنوان “الحقيقة في تناقص الإحتياطيات الأجنبية (1-2) نشرته صحيفة “الرياض بوست” الإلكترونية؛ (3) مصير (250) ألف مليون ريال تم تخصيصها لبناء (500) ألف وحدة سكنية قبل أعوام، ولازال الجميع وفي مقدمتهم وزير الإسكان يراوغ ويناور في إعطاء إجابة شافية كافية وافية؛ (4) كيفية استعادة إستثمارات سعودية تجاوزت (2.65) تريليون ريال ناقشها مجلس الشورى قبل أيام. والقائمة من القضايا المالية الغامضة تطول. التحدي الأكبر لوزير المالية الجديد هو في صياغة إستراتيجية واضحة المعالم لخطته وأولوياته في السنوات الثلاث القادمة ونشرها وإعلانها في أسرع وقت ممكن.

 

ثامناً، وزير المالية يشكل أهمية خاصة في عقل وجيب ووجدان الشارع السعودي، فهو الذي يملك المعلومة الدقيقة والكلية، أو كما يقول البعض: “الوحيد الذي لا يخلو جيب مواطن من اسمه وتوقيعه”. ويأتي تعيين وزير المالية الجديد في ظروف غاية في الصعوبة والحساسية، وأهمها على الإطلاق ازدياد وعي وثقافة وعلم المواطن، ولذا فإن الشفافية والإفصاح عنصرين رئيسين في قبول المجتمع والثقة فيما يقول الوزير الجديد. يكفيه أن يعيد مشاهدة حلقة “الصدمة” وما تبعها من جدل إجتماعي ويدرك أن المواطن السعودي أذكى من المواطن الأمريكي بـ(48) ضعف. كيف؟ ففيما يستغرق الفرد في أمريكا استخراج معلومة قديمة عن المرشح الأمريكي (48)  ساعة حسب الدراسات، استطاع الفرد السعودي خلال ساعة واحدة فقط أن يستخرج معلومات كاملة عن وزير الخدمة المدنية، وأين عمل سابقاً ولماذا أُقِيل، وعن ابنه وأين يعمل بالوثائق والصور. كما استطاع المواطن السعودي أن يعرف خلال ساعة، كم درجة نجاح وزير الإسكان عند تخرجه من الجامعة. هذا يدل على أن المواطن السعودي ذكي وحريص ويملك القدرة على استخراج المعلومات. ولذا، فالإستهتار بذكاء المواطن السعودي من أي وزير أو من الحكومة هو خطيئة لا تغتفر. وياحبذا لو قرأ كل وزير في الحكومة مقال أستاذنا الكاتب خالد الوابل الذي نشرته صحيفة عكاظ في 26 أكتوبر 2016 بعنوان “كشف حساب بين الوزير والمواطن”.

 

أخيراً، يعتبر معالي محمد الجدعان وزير المالية في السعودية رقم (13) منذ العام 1932 تفاوتت مدة احتفاظ الوزراء بحقيبة المالية خلالها من (5) أيام فقط، إلى حوالي (22) عام، كان د. إبراهيم العساف صاحب الرقم القياسي والأطول بقاء كوزير للمالية. ولا نعلم هل يقضي الوزير الجديد أيام أو شهور أو سنين أو عقود في منصبه الجديد. صحيح أن رقمه المتسلسل (13)؛ وصحيح أن خبرته العملية متواضعة جداً؛ ومؤهلاته العلمية غير مناسبة وضعيفة،  بالنسبة لمنصبه ومكانة السعودية. لكننا نجزم، أنه بتوفيق الله سبحانه، ثم بتنفيذه للقسم الذي أداه أمام مولاي الملك سلمان، وبقربه وتواصله مع المواطن السعودي أولاً وقبل كل شيء، سينجح نجاحاً باهراً إذا ما ما استطاع أن يقول “لا” في الوقت المناسب، ويعيد الثقة للمواطن السعودي. ختاماً، كل الشعب السعودي يتمنى أن يثق في رؤية 2030 وليس وزير المالية الجديد فقط أو الحكومة، لكن هناك جبال وهضاب وأودية وخلجان تفرض على الوزير الجديد وعلى الحكومة أن يحسنوا الملاحة بينها وأهمها الشفافية والحوكمة والإفصاح فهي أساس الثقة. نرجوا من الله العلي القدير أن يوفق ويعين وزير المالية الجديد، ونشكر معالي د. إبراهيم العساف على جهده في كل ما بذله من خير في مانعلم ومالا نعلم، فتوقيعه واسمه لازال في جيوبنا. حفظ الله الوطن.

 

صحيفة بوابة مصر 11

أضيف بتاريخ :2016/11/04

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد