آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
مجاهد عبد المتعالي
عن الكاتب :
كاتب سعودي

الوسطية بين الحكومة والمعارضة

 

مجاهد عبدالمتعالي ..

على الوسطية بالمعنى الشرعي أن تقبل التعددية في الفهم والآراء، بعيدة عما يخص الدولة، وخصوصا أن المهمة المطلوبة منها ليست تشريعية، بقدر ما هي اجتماعية

 

أحد الفضلاء يشتكي ويرى أن لقب (الليبروجامية) يلاحقه في كل مكان، ويبرر ذلك بالوسطية التي يراها، والتي يحاول ـــ دون أن يشعر ـــ أن يجعلها أيديولوجيا جبرية بالإكراه، ولا تقبل في ذاتها التعددية، لتتحول وسطيته إلى نظام كوريا الشمالية لكن وفق مصطلحات شرعية، والإشكال أن الوسطية بذاتها تحتاج إلى تحقيق، فمنذ وسطية أفلاطون قبل ما يزيد على ألفي سنة القائل بأن الفضيلة هو وسط بين رذيلتين، وصولا إلى الفهم الحالي لدى البعض عن الوسطية.

 

كل هذا أعاد للذاكرة اتصالا هاتفيا عابرا قبل عقد من الزمان لمن يمثل أحد الأندية الأدبية، وقال لي: ستكون هناك ندوة عن الوسطية، ونريد منك الحديث عن فهمك للوسطية كما تراه، وسيكون معك أحد الشيوخ الأفاضل ليحكي عن مفهومه للوسطية حسب وجهة نظره، طبعا اعتذرت عن المحاضرة لأنه مجرد اتصال من رقم وشخص لا أعرفه، وسبب أهم ورأيته مبررا، واستشرافي لشكل المحاضرة قبل أن تكون، حيث إن النادي -حسب ظني في الأندية (وبعض الظن إثم)- يريد شخصين، أحدهما يحكي عن الوسطية بالمعنى الفكري بدون آيات وأحاديث والتي تعني في النهاية (أن الوسطية هو ما تريده الحكومة)، وشخص آخر يشرح الوسطية بالمعنى الديني مع استحضار الآيات والأحاديث والتي تعني أيضا (أن الوسطية هو ما تريده الحكومة)، وعليه فلست الشخص المناسب، ومن هنا جاء نحت الناس لمصطلح (الليبروجامية).

 

أخبرته أن الوسطية بالمعنى الشرعي هي بفتح السين في قوله تعالى (وجعلناكم أمة وَسَطَى) وليس بسكون السين، وشتان ما بين دلالة (الوَسَط، والوسط)، والعلة في الآية (لنكون شهداء على الناس)، والشاهد تسقط شهادته إن جرت له نفعا، أو دفعت عنه ضرا، وتزداد قيمة الشهادة بقدر ما فيها من حياد دون اصطفاف مع أحد، وإلا سقطت قيمة الشهادة، ولهذا كانت الوسطية في مضمونها (الحياد)، ولهذا فالوسطية أن لا يتحول المثقف إلى مجرد ترزي (خياط) لكل ما تطرحه الحكومة، ولا يكون مجرد حمَّال حطب لكل ما تطرحه المعارضة -طبعا المعارضة الوطنية غير المنشقة على الدولة فتلك مبحث آخر- فالوسطي هو بين الحكومة والمعارضة، فليس كل ما تطرحه الحكومة في نظره وعلى المستوى الشخصي قد يراه بالضرورة صحيحا، وليس كل ما تطرحه المعارضة في نظره وعلى المستوى الشخصي قد يراه بالضرورة خطأ، والعكس صحيح.

ويبقى من فكرة الوسطية أن لا تتحول إلى أيديولوجيا بذاتها، تريد فرض أجندتها، وخصوصا عندما تطرح الوسطية كمفهوم شرعي، فما كان في أقصى اليسار قبل سبعين عام من المطالبة بفتح مدارس البنات ليحفظ التاريخ لنا معاناة عبدالكريم الجهيمان في تطرفه اليساري في نظر البعض آنذاك، أصبح من أبجديات الحياة، وعليه فعلى الوسطية بالمعنى الشرعي أن لا تعيد طرح نفسها بنفس الحدية القديمة، لتتحول مع الزمن إلى أزمة فهم ديني كما هو حاصل الآن.

 

على الوسطية بالمعنى الشرعي أن تقبل التعددية في الفهم والآراء، بعيدة عما يخص الدولة، وخصوصا أن المهمة المطلوبة منها ليست تشريعية، بقدر ما هي اجتماعية، أما التشريع فمجلس الشورى بلجانه المتعددة هو المختص حتى ولو لم يكن على المستوى المأمول منه، لكن الصفر يبقى رقما يحفظ الاحتمال ليوم قادم نجد على يساره رقما صحيحا يعطيه معنى ووزنا، والرقم الصحيح الذي يعطي الصفر معنى وقيمة هو (الانتخاب).

 

إقحام المفهوم الوسطي بالمعنى الشرعي في المسائل الاجتماعية يعيدنا إلى إقحام الدولة في التفاصيل، فما الذي يعني الدولة أن تتدخل بين الأب وابنته أو الزوج وزوجته فتضع نظاما يمنع أحد الأطراف من حريته الطبيعية التي كفلتها الشريعة لكل مكلف عاقل حر، ذكرا كان أو أنثى، مع بقاء الدولة على الحياد حتى يتقدم أحدهما للجهات المختصة للفصل في الضرر الذي لحقه من الآخر، أما أن تبادر ابتداء بوضع نظام يحد من حرية أحد الأطراف الكاملة الأهلية، فهذا إدخال الدولة في أمور باسم الدين ظلما، فالدين بريء من عنت العادات والتقاليد، والدولة ليست معاييرها معايير القبيلة البدائية، ولكنها حاضنة لكل التنوع الإنساني بأقصى حد من الحياد، والحياد فقط هو المعنى الحقيقي للوسطية دون انحياز لطرف ضد الآخر.

الوسطية يجب عليها أن تقبل وجود اليسار واليمين، وإلا أصبحت الوسطية في ذاتها وجها من أوجه الشمولية المقيتة لنظام الحزب الواحد لكوريا شمالية جديدة ونحن لا نشعر.

 

الوسطية ليست ليبروجامية موظفة لدى الحكومة، وليست الحكومة فوق الدولة (ملكا وشعبا وجغرافيا)، فالحكومة تتشكل كل أربع سنوات، فهي هيئة نظامية من خلالها يتفاعل المجتمع نماء وازدهارا، صعودا وهبوطا وفق أدبيات دستور الدولة (النظام الأساسي للحكم) وما عدا ذلك فدعوى سيرفعها أدعياء الوسطية في وجه الدولة لتحكيم كتاب الله، وهل رأينا في يد البغدادي والزرقاوي والخوارج من قبلهما غير كتاب الله، ولكنها شنشنة ألفناها يزعمون فيها أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يريد تحكيم كتاب الله قبل أن يلصقوها بمن جاء بعده إلى وقتنا الحاضر ممن عرفوا الحيلة ودعاواها الشعبوية.

 

والوسطية المزيفة نوعان، وسطية باسم الوطن، ووسطية باسم الدين، وأنكى دعاوى الوسطية باسم الوطن التي تخيرك بين سرقة مائة ألف أو سرقة مليون ثم توهمك بأن الوسطية بأن تكون سارقا لنصف مليون، ومثلها دعاوى الوسطية باسم الدين التي تخيرك بين جلد المؤخرة تعزيرا بيد القاعدة مائة جلدة أو جلد المؤخرة تعزيرا بيد داعش ألف جلدة ثم توهمك بأن الوسطية بأن تجلد على مؤخرتك تعزيرا خمسمائة جلدة.

 

ختاما، الوسطية هي حياد عن الأطراف، وإقحام المحايد ليكون منتسبا لأحد الأطراف فقد وسطيته، وعلى الدولة أن تكون وسطية بهذا المعنى، والتطرف اليميني واليساري دليل صحة وتفاعل ما دام في إطار الدولة، وما زاد عن ذلك فليس له علاقة بيمين أو يسار، بل بتنظيمات تريد هدم المعبد على من فيه، وليس من عاقل في أي طرف يتمنى ذلك، فكلنا نحزن على بعضنا يسارا ويمينا أن نفقد حريتنا بعيدا عن أبنائنا في غياهب السجون، ونتمنى الحرية لنا جميعا، وتبقى السلطة ميزان عدل لحفظ النظام العام، وليست مطرقة تسلط على رؤوس الشعب على سندان نسميه الوطن أو الدين، فالدين بريء من التسلط، والوطن يستحق احترام المواطنين لا خوف الرعايا.

 

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2016/11/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد