آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

ملف الاغتيالات السياسية

 

سعيد الشهابي ..

فتحت حادثة اغتيال السفير الروسي في العاصمة التركية الأسبوع الماضي ملف الاغتيالات السياسية في العقود الاخيرة، لتكشف مسلسلا من الحوادث المماثلة التي تختلط فيها الدوافع الإجرامية بالسياسية بشكل يصعب تفكيكه. كما تفتح السجال حول جدوى الاغتيال السياسي عموما وما إذا كان سلاحا فاعلا يساهم في تحقيق الأهداف المرجوة منه. ويدفع أيضا للتساؤل عما إذا كانت هناك وسائل أخرى فاعلة للتغيير السياسي المنشود. ومن خلال متابعة نضالات الشعوب يمكن ملاحظة حقيقة تقول بأن التغييرات الكبيرة لم تتحقق إلا في حالات الانقلاب السياسي أو الثورة الشعبية الشاملة أو الحرب التي تشارك فيها جيوش متحالفة عديدة. أما الاغتيال فهو بشكل عام محدود التأثير والجدوى، وأقصى ما يحققه أحداث تغييرات طفيفة على سياسات الدول لا تلامس جوهرها. ولكي يتضح هذا الزعم، يمكن استقراء عدد من هذه الاغتيالات التي هز بعضها العالم بسبب أهميتها.

 

بعد الحرب العالمية الثانية حدث أول اغتيال سياسي كبير بمدلول سياسي يتجاوز حدود البلد الذي وقع فيه. ففي العام 1948 اغتيل الزعيم الهندي المناضل، المهاتما غاندي في ذروة الصراع الطائفي بين الهندوس والمسلمين. حدثت الجريمة احتجاجا على سياسته الداعية لاحترام حقوق الأقلية المسلمة في الهند. جاء رد المتطرفين الهندوس باغتيال الزعيم التاريخي على يدي أحد المتعصبين أطلق ثلاث رصاصات أردت غاندي صريعا.

 

 أدى ذلك الاغتيال لأزمة سياسية في الهند التي كانت حديثة الاستقلال عن بريطانيا. وقد كان ذلك الاستقلال ضربة موجعة للإمبراطورية البريطانية التي كانت الهند تمثل تاجها. وسادت العالم حالة من الحزن والاستنكار لخسارة ذلك الرمز التاريخي المتميز. وقد القي القبض على القاتل الذي عرفت على الفور دوافعه ودور التعصب الهندوسي في تلك الجريمة. ثم جاءت جريمة اغتيال سياسي أخرى لم يتم تفكيك لغزها حتى اليوم.

ففي 18 سبتمبر (أيلول) 1961 كان داغ همرشولد، الأمين العام للأمم المتحدة، متوجهاً إلى روديسيا الشمالية التي تعرف حالياً بزامبيا عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله في غابة على بعد تسعة أميال من مطار ندولا. ذهب همرشولد للتفاوض مع مويس تشومبي، قائد مقاطعة كاتانغا الانفصالية في جمهورية الكونغو الحديثة الاستقلال. وقد عارض همرشولد فكرة انفصال كاتانغا عن الكونغو، إلى حد أن قوات الأمم المتحدة قاتلت المرتزقة الذين كانوا يقاتلون في كاتانغا على بعد 100 ميل من المطار الذي كان ينوي الأمين العام أن يحطّ فيه. وبعد مرور أكثر من نصف قرن ما زال الغموض يلف تلك الجريمة التي هزت العالم. وما يزال الباحثون والمؤرخون يقلبون الوثائق التاريخية لعلهم يجدون فيها ما يشير إلى الفاعلين وهويتهم أو انتمائهم. وهذا يعني أن التدبير قامت به جهة دولية تمتلك تقنيات متطورة حالت دون الكشف عن هويتها. مرة أخرى يؤدي الاغتيال لحالة من التوتر غير مسبوقة وتنذر باحتقان دولي يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب العالمية المدمرة.

 

بعد ذلك بعامين حدث اغتيال ثالث ذو أهمية سياسية كبرى. ففي 22 نوفمبر/تشرين الثاني  1963 اغتيل الرئيس جون كنيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة بمدينة دالاس، تكساس. فبينما كان موكب الرئيس يتحرك بسرعة منخفضة في وسط المدينة تم استهداف الرئيس بطلقات نارية قاتلة. وجون كنيدي هو رابع رئيس للولايات المتحدة يكون ضحية لجريمة قتل. وبعد مرور أكثر من نصف قرن ما يزال لغز الاغتيال غامضا. وما زاد الجريمة غموضا أن الشخص المتهم بالقتل، لي هارفي اوزوالد، قتل بعد يومين من عملية الاغتيال، وبذلك انقطعت خيوط التحقيق للتعرف على مخططي العملية وأهدافها. وما تزال النظريات تطرح حتى اليوم حول ذلك الاغتيال الذي حدث في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. وقد جاء اغتيال كنيدي بعد عامين من الأزمة التي كادت تتحول إلى حرب عالمية. فقد نصب الاتحاد السوفياتي صواريخ نووية على الأراضي الكوبية، الأمر الذي كاد يفجر أول حرب نووية مدمرة. ذلك الاغتيال لم يؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية التي بقيت مشغولة بقضايا الحرب الباردة والاستقطاب الذي هيمن على العالم قرابة نصف قرن. وشهدت حقبة الستينات عددا من عمليات الاغتيال في الولايات المتحدة من أهمها قتل مارتن لوثر كنغ، الذي كان مناهضا للعنصرية ضد السود في أمريكا. وبعده اغتيل مالكوم اكس المفكر المسلم الذي كان ناشطا في مجال الصراع ضد العنصرية.

 

صعدت «إسرائيل» في السبعينات اغتيال معارضيها من الفلسطينيين بعد أن بدأ انتشار وعي شعبي بالقضية الفلسطينية في الأوساط الغربية. ومن هؤلاء غسان كنفاني (بيروت 1972)، وائل زعيتر (أكتوبر 1972، روما)، محمد همشري (8 ديسمبر 1972، باريس)، حسين البشير (24 يناير 1973)، باسل الكبيسي (6 أبريل 1973، باريس). وفي 9 ابريل 1973 قام عملاؤها بإنزال سري في بيروت واغتالوا كلا من محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. واستمر الإسرائيليون في جرائم الاغتيال في العقود اللاحقة. وفي 1978 اغتالت المخابرات الإسرائيلية المناضل والمفكر الفلسطيني، سعيد حمامي، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لندن. كان يومها جالسا بمكتبه فانهالت عليه رصاصات عملاء «إسرائيل».

 

وفي1989 قام فريق من الموساد بإنزال في تونس واغتالت الزعيم الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد)، وفي 1991 اغتال الصهاينة صلاح خلف (أبو أياد). ويتردد الآن أنها وراء قتل ياسر عرفات بالسم في 2004. واغتال الإسرائيليون فتحي الشقاقي في مالطا في 1995، وفي 1996 اغتالوا يحيى عياش في غزة. وفي 2004 اغتالوا عبد العزيز الرنتيسي في غزة، ومحمود المبحوح في يناير 2010، وأحمد الجعبري في 2012. وأخيرا اغتالوا محمد الزواري في تونس في 15 ديسمبر. أما «إسرائيل» فقد ردت على محاولة اغتيال سفيرها في لندن، شلومو ارجوف، في يونيو 1982 باجتياح لبنان وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. واستهدفت «إسرائيل» رموز المقاومة الإسلامية اللبنانية، فاغتالت الشيخ راغب حرب في فبراير 1984 والسيد عباس الموسوي، الأمين العام لحزب الله في فبراير 1992.

 

ولم تقتصر عمليات الاغتيال في الشرق الأوسط على الجرائم المذكورة. ففي 25 مارس 1975 قام الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود بإطلاق النار على عمه فيصل بن عبد العزيز وهو يستقبل وزير النفط الكويتي عبدالمطلب الكاظمي في مكتبة بالديوان الملكي وأرداه قتيلًا، وقد اخترقت إحدى الرصاصات الوريد فكانت السبب الرئيسي لوفاته. وقد أعدم القاتل لاحقا. فما مغزى ذلك الاغتيال؟ لقد تميز عهد الملك فيصل بعدد من الأمور: أولها تصاعد الإنتاج النفطي السعودي ومدخولاته، الأمر الذي وفر له القدرة على بدء مشاريع تعنى بالبنية التحتية للبلاد وتمكينها عسكريا. وفي عهده بنيت قاعدة خميس مشيط في جنوب غربي البلاد، وهي واحدة من أكبر القواعد السعودية. الثاني: أن عهده تميز بالتنكيل الشنيع بالمعارضين، وتردد أن أجهزة أمنه قامت برمي المعارضين الشيوعيين من الطائرات في الربع الخالي. الثالث: إنه أول من هدد باستخدام النفط سلاحا ضد الغرب بسبب دعمه لـ «إسرائيل»، وذلك بعد حرب أكتوبر 1973. وفي عهده بدأت السعودية تمارس دورا قياديا على الصعيد العربي، بعد غياب جمال عبد الناصر في 1970 خصوصا بعد أن توفر لها مدخولات مالية كبيرة من تصدير النفط. ولكن مقتله فتح الباب أمام مسلسل الاغتيال السياسي المرتبط بالأوضاع السياسية العربية. كما أن علاقات السعودية مع اليمن تحسنت طفيفا بعد حربهما الدموية المدمرة في 1962 بعد أن كان الصراع مع مصر في ذروته.

 

هذا المسلسل من الاغتيالات في العالم، وبعضها في العالم العربي، يشير إلى استخدام القتل خارج إطار القانون سلاحا في الصراع السياسي بين الفرقاء. ويعبر كذلك عن بلوغ التوتر درجات قصوى تدفع الأطراف لاستخدام أسلحة غير تقليلدية لتصفية الحسابات. واغتيال السفير الروسي يجسد عمق الصراعات المتعددة الأطراف نتيجة الأزمة السورية التي أرهقت الأمتين العربية والإسلامية. ومع أنه ليس من المتوقع أن تؤثر سلبا على العلاقات المتنامية بين تركيا وروسيا، ولكنها ستدفع موسكو لمزيد من الحضور في شؤون المنطقة بعد أكثر من ربع قرن من الغياب. الأمر المؤكد أن الاغتيال يكشف حدود تأثير القوة العسكرية لدى الدول والمجموعات، ويكشف قدرته على عرقلة السياسات ولكنه لا يستطيع تغييرها جوهريا ولا يلغي خطط الدول والمجموعات أو أهدافها أو سياساتها.

 

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/01/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد