آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الإسلاموفوبيا: من التصريحات إلى الممارسة


د. سعيد الشهابي ..

من الضرورة بمكان أن لا يحصر المراقب نظرته للغرب وحقيقة مواقفه بمفردات الأوضاع السياسية، بل عليه أن ينظر للخيط الذي يجمعها لكي يتعرف على شكل المسبحة كاملة. فثمة مفردات جديدة لا يمكن تفسر الحقيقة الغربية إلا بها مجتمعة: أولا: صعود ذوي التوجهات المتطرفة وفي مقدمتها دونالد ترامب وأحزاب اليمن المتطرف، وبداية تصدع الاتحاد الأوروبي نتيجة ذلك. ثانيها: ظاهرة الهجرة التي كانت في بؤرة الاهتمام والسجال العام الماضي وما تزال كذلك، ثالثها: الموقف الغربي من الإسلام بعمومه، خصوصا في ضوء قرار المحكمة الأوروبية حول ارتداء الحجاب الإسلامي في مكان العمل. رابعا: التحالفات الجديدة ـ القديمة مع بعض أصحاب القرار في العالم العربي، خامسا: منطلقات تراجع المشروع الغربي في مجالاته الأخلاقية والسياسية. ولكل من هذه المفردات ظروفها ومعطياتها ومتضمناتها. ومن المؤكد أن النظر لكل منها بشكل مفصل والاستغراق في تحليلها بعيدا عن علاقتها بالأخريات، مع عدم البحث عن الخيط الجامع لها لن يظهر الصورة كاملة.

في البداية لا بد من الاعتراف بأن عدم منح خيرت فيلدرز، مرشح اليمين المتطرف في هولندا يؤكد أن الشعوب الغربية ما تزال تحتفظ بقدر من التوازن في مواقفها وترفض التطرف، أيا كان شكله. فهي لا تقبل بالتطرف في الجانب الإسلامي كما ترفض التطرف في أوساطها. فقد كانت أوروبا على موعد مع انطلاق تلك الظاهرة التي لن ينحصر ضررها بالمسلمين المستهدفين مباشرة من قبلها، بل على التحالف الأوروبي المتمثل بالاتحاد الأوروبي.
فمجموعات التطرف اليميني لديها نزعات «شعبوية» تتناقض مع الرغبة في التوحد أو الانصهار في البوتقة الأوروبية. وهذه ظاهرة مشتركة مع الرئيس الأمريكي الذي لا يخفي رفضه أوروبا الموحدة، وسروره بخروج بريطانيا من الاتحاد، وتشجيعه الدول الأخرى على الانسحاب منه. كما أن الأحزاب اليمينية هي الأخرى لا ترغب في البقاء ضمن أوروبا الموحدة. وفي بريطانيا يمثل حزب «الاستقلال» الذي أسسه نايجيل فرج، تجسيدا لنزعة الانفصال بدوافع منها الوطنية ومنها التعصب وغياب الوعي بمزايا الوحدة. والأحزاب الأخرى في فرنسا وهولندا وألمانيا هي الأخرى تدفع باتجاه الانسحاب من الوحدة الأوروبية. والمسألة الأخرى أن من يسعى لفك الترابط الأوروبي يحرص كذلك على نزعة المفاصلة مع العالم الخارجي، فهو انفصالي، منطو على الذات، يشعر بالعظمة الذاتية وتملأه مشاعر الاستعلاء والتكبر، وكراهية الغير والرغبة في استئصال الآخرين. هذه الطبيعة غريبة عن الفطرة الإنسانية، يرفضها الأوروبي كما يرفضها الشرقي، ولا يتشبث بها إلا من لا يقف على أرضية صلبة من الأخلاق والمشاعر الإنسانية. ويمكن افتراض أن فشل اليمين المتطرف بالفوز في الانتخابات الهولندية مؤشر لرفض ذلك التطرف من قبل الشعوب الأوروبية. هذه الشعوب تؤمن بأن وحدة أوروبا مفيد لها جميعا على الصعدان السياسية والاقتصادية والأمنية. وثمة توقع بعدم فوز مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي، وأن السيدة جين ماري لوبان، لن تنجح في نهاية الانتخابات حتى لو حققت فوزا في الجولة الأولى منها.

المسألة الأخرى ذات الأهمية في السجال تتمثل بظاهرة اللجوء، التي يمكن اعتبارها نقطة البداية في الاضطراب السياسي والأيديولوجي الذي يجتاح القارة الأوروبية. وهنا يسعى الساسة الغربيون لتجاوز الحديث عن أسبابها. فهي لم تأت من فراغ، بل من أوضاع سياسية ساهم الغربيون في أذكائها. وليس من قبيل الصدفة أن تنتعش الظاهرة في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وهنا يجب التأكيد على الدور الغربي في وأد الثورات العربية ومنع التغيير. فبدلا من التزام الغرب بعموديه الأساسيين في السياسة الخارجية، كما يفترض، وهما حقوق الإنسان والديمقراطية، فشلت أمريكا وأوروبا في دعم تلك التوجهات، ولم تكتف بذلك بل ساهم بعضها في دعم الأنظمة لقمع الثورات مع استمرار دعم الاحتلال الإسرائيلي. وازداد الأمر سوءا بالتدخلات العسكرية خصوصا مع غياب سياسات لما بعد التغيير، وبذلك انتشر العنف والإرهاب والتطرف، وانعدم الأمن وساد الخوف، الأمر الذي دفع الكثيرين للهرب من ذلك الجحيم الذي لا يطاق. وتوجه أغلب هؤلاء إلى أوروبا الأمر الذي أدى إلى تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة في العامين الماضيين. هذه الظاهرة وفرت الوقود لذوي الاتجاهات اليمينية المتطرفة في الغرب، حتى آلت الأوضاع إلى ما هي عليه الآن. وساهم صعود دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية في تشجيع هذه الاتجاهات، بل أضاف للنار وقودا عندما أصدر قراره بمنع مواطني سبع دول مسلمة من دخول الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك اعتراضات عديدة على ذلك القرار حيث أن المحاكم في عدد من الولايات الأمريكية رفضت تطبيق ذلك القرار حتى بعد أن استثنى العراق من الحظر وحصره بست دول فحسب. مع ذلك كان لذلك المنع أصداء تناغمت مع تفكير ذوي التوجهات المتطرفة في أوروبا. وبدلا من ممارسة الولايات المتحدة دورا قياديا بنشر السلام والأمن في ربوع العالم جاء صعود ترامب وتصريحاته وقراراته وتوجهاته كارثة على الأمن الإنساني وعلى محاولات تعميق الحوار والثقة بين الأعراق والأجناس والأديان والحضارات.

البعد الثالث للازمة الحضارية التي يعيشها العالم يتمثل بتطور العداء للإسلام خلال ثلث القرن الأخير. قبل ذلك كان استهداف الإسلام مؤسسا على الشعور بالاستعلاء والقوة لدى الغربيين الذين كانوا انتقائيين في ما يستهدفونه من مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه. وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وتصاعد نفوذ الحركات الإسلامية التي تروج ما يسميه الغرب «الإسلام السياسي» استهدف الغربيون المشروع الإسلامي بما هو منافس فكري وأيديولوجي وسياسي للمشروع الغربي. يومها انشغل الغربيون بمواجهة القوات السوفياتية التي اجتاحت أفغانستان، وكان من نتيجة ذلك سقوط المشروع الشيوعي ونهاية الحرب الباردة.

 وسعى الغربيون لمواجهة «الإسلام السياسي» في كافة المواقع، ابتداء من إيران وصولا إلى العالم العربي الذي شهد استهدافا كاسحا للحركات الإسلامية المعتدلة. وتعرضت الحركات الإسلامية المعروفة لقمع رهيب في الثمانينات، فاستهدف الأخوان المسلمون في مصر منذ بداية حكم حسني مبارك بعد اغتيال السادات في 1981، وقمعت حركة النهضة في تونس، وحوكم رموزها وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي، واستهدف الإسلاميون في الجزائر والمغرب والأردن وسوريا والعراق والبحرين. هذا في الوقت الذي كان الاحتلال الإسرائيلي ينكل بالفلسطينيين خصوصا بعد الانتفاضة الأولى في 1987. كان الاستهداف موجها للمشروع السياسي الإسلامي، وتم تجميد استهداف الدين كعقيدة وممارسة.

الفصل الحالي من المواجهة يختلف في طبيعته وأهدافه عن الفصول السابقة. فبعد استهداف الحركات الإسلامية المعتدلة، وتشجيع التطرف وبث الطائفية والمذهبية، أصبح الطريق معبدا لاستهداف الإسلام كدين خصوصا في مظاهره المألوفة وأهمها الحجاب الإسلامي. بدأت المواجهة باستهداف ظاهرة النقاب التي انتشرت في بلدان عربية وإسلامية قبل أن تصل إلى العواصم الغربية. وفي الفترة الأخيرة أصبح لدى الغربيين قناعة مختلفة. فقد استهدف الإسلام كدين، وتحدث العديد من المفكرين بأن مشكلة العنف إنما هي نتيجة عملية للنصوص القرآنية، وأن الإسلام كدين وعقيدة يدعو للعنف ويشجع عليه. ساهم ذلك في تعميق الشعور بضرورة التصدي للإسلام كدين، وإضعاف الظاهرة الدينية ما أمكن.

وفي الشهور الأخيرة تصاعدت ظاهرة الإسلاموفوبيا بوتيرة مقلقة، واستهدفت المساجد والمؤسسات الإسلامية تارة بالحرق وأخرى بالتشويه الإعلامي وثالثة بالتشكيك في مدى التزامها بالقانون. بعد استهداف النقاب أصبح المجال مفتوحا لاستهداف الحجاب أيضا، أي التصدي للظاهرة الدينية بعيدا عن مدى ارتباطها بالإسلام السياسي. وفي الأسبوع الماضي صدر قرار عن محكمة العدل الأوروبية يسمح للشركات وأرباب العمل بـ «منع الموظفين من ارتداء أي رمز أو لباس له دلالة سياسية أو فلسفية أو دينية». وكانت هذه القضية قد وصلت إلى المحكمة، بعد دعوى رفعتها عاملة استقبال مسلمة ترتدي الحجاب بعد طردها من عملها، في فرع شركة (جي فور إس) الأمنية في بلجيكا، وقد أحالت محكمة الاستئناف البلجيكية القضية إلى محكمة الأوروبية للاستيضاح فأصدرت قرارا لم يكن بالحسبان. فقد كان الانطباع السائد أن المجتمع الغربي أصبح يقبل الحجاب وأن كان متحسسا إزاء النقاب. وهنا تضارب كبير بين الضوابط الإدارية للشركة المعنية ومباديء حقوق الإنسان. فالأجدر أن تعطى قيم حقوق الإنسان حاكمية على ضوابط الشركات، فإذا تضاربت هذه الضوابط مع حقوق الإنسان، فلا يجوز الأخذ بها. ولكن الذي حدث هو العكس، فقد تم تطويع حقوق الإنسان التي تمنح المرأة حق ارتداء ما تريد، لضوابط الشركة المذكورة، وهو انتقاص من القيمة المعنوية لحقوق الإنسان، وعودة إلى ما قبل التوافق بشأنها، أي العودة لظروف الحرب العالمية الثانية التي افتقرت للقيم والمبادئ.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/03/20

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد