آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. فالح العجمي
عن الكاتب :
أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود

أين اختفى اليسار الأوروبي؟


د. فالح العجمي

بالتأكيد أن كثيرًا من المتابعين للتطورات السياسية في أوروبا خلال السنوات العشر الماضية قد لاحظوا أن المزاج الشعبي قد ابتعد عن مبادئ اليسار في مجمله، وأصبحت الأحزاب القائمة على تلك المبادئ تستجدي الاشتراك في تحالفات مع أحزاب ناشئة، لعلها تصل إلى الحكم، أو تكوّن معارضات ذات شأن. وكانت الظاهرة قد بدأت في بريطانيا وألمانيا في مطلع هذا القرن، عندما بدأ أفول حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الاجتماعي في ألمانيا، ثم تلتهما أحزاب في عدد من الدول الأوروبية. وبقيت كل من اسبانيا وفرنسا تقاومان هذا التحول، إلى أن بدأ الشباب فيهما يتمردون على الأطر التقليدية، التي تصنف السياسات الاشتراكية بأنها ضمان للعدالة مع الفئات الأقل في المجتمع. فلاحظنا خلال السنوات الخمس الماضية، كيف بزغ نجم حزب صغير جداً في اسبانيا، ليست فيه كوادر حزبية ذات خبرة، وليست لديه مصادر تمويل، بل أنشأه بعض الشباب المتحمسين للتغيير، والناقمين على الأحزاب الكبيرة التقليدية، هو حزب بوديموس (أي: «نحن نستطيع»، طبعا المقصود: نستطيع التغيير، وأخذ الأمور بأيدينا). وخلال دورة انتخابية رئاسية فيدرالية وانتخابات برلمانية محلية في عدد من الولايات حقق هذا الحزب الناشئ اكتساحًا غير متوقع، إذ حاز على قرابة ثلث الأصوات على مستوى البلاد، والنصف في بعض المجالس النيابية الإقليمية.

وفي هذه الأيام تدور رحى حملات الانتخابات النيابية الفرنسية، بعد أن اكتسح الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون انتخابات الرئاسة بفوزه بثلثي الأصوات، فأخذت حركته «الجمهورية إلى الأمام»، التي أنشأها منذ ستة أشهر فقط، اقتداء من هذا الشاب الطموح النبيه بما حدث في الجارة الجنوبية اسبانيا، مما لم يدركه عتاولة الأحزاب التقليدية الكبرى، تعد لهذه الانتخابات النيابية، ليحصل الرئيس الجديد على أغلبية مريحة في البرلمان تمكنه من الحكم بسهولة.

والطريف أن الحركة التي يتزعمها المرشح السابق لليسار الراديكالي جان- لوك ميلانشون، ترغب في أن تكون حزب المعارضة الرئيس في البرلمان. وقد أعلن زعيمها أن هدفه ليس إضعاف الحزب الاشتراكي، بل أن تحل الحركة محله، باعتبارها قوة اليسار الأساسية. كما أن حركة «الجمهورية إلى الأمام» (حزب الرئيس ماكرون الناشئ) تريد أن تأخذ في الانتخابات التشريعية منحى يساريًا في ترشيحاتها الأولى، مع 22 نائبًا خرجوا من الحظيرة الاشتراكية، الأمر الذي عدّه فرانسوا باروان رئيس قائمة حزب «الجمهوريين» اليميني للانتخابات التشريعية «إعادة إنتاج للحزب الاشتراكي الذي لا وريث له».

وعندما أتذكر بزوغ نجم أحزاب «الخضر» في شمال أوروبا ووسطها، وهم أصلا جماعات من الناشطين الأفراد والجماعات الشبابية، التي كان هدفها الأول الاهتمام بالبيئة، ومقاومة التسلح المطرد، والاحتجاجات ضد التوسع في استخدام الطاقة النووية؛ أعجب من قدرة المجتمعات الحية على تكوين المبادرات، التي تُعنى بهموم المجتمع الآنية، وما تلبث تلك المبادرات أن تصبح تيارًا شعبيًا جارفًا. واستغرب من عدم التقاط جنوب وجنوب غربي القارة لتلك الأفكار، التي تحولت إلى أحزاب مؤثرة في سياسات بلدان الشمال والوسط الأوروبي. ويبدو أن أوروبا ستنسلخ من جلدها القديم، الذي كانت تتقاسمه ثنائية اليمين واليسار لعقود طويلة من الزمن، لكن اليمين السياسي ما زال يتغذى من الصراعات الدولية، ومن بعض الأفكار العنصرية، ومن الإرث الثقافي الأوروبي، غير أنه لا بد أن يلفظ أنفاسه بأثر من الثورة على التاريخ.

جريدة اليوم

أضيف بتاريخ :2017/06/11

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد