آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

التجهيل والتضليل والقمع من أهم وسائل الثورة المضادة


د. سعيد الشهابي

في مثل هذه الأيام قبل ربع قرن كانت هناك كوة ضيقة يتسرب منها النور إلى العالم العربي، خصوصا منطقة الخليج. يومها كان الغرب، ممثلا بأمريكا، يتمتع بقوة نفسية ومعنوية كبرى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وخوض أكبر حرب معاصرة ضد القوات العراقية في الكويت. ولم تكن ظاهرة الإرهاب بحجمها الحالي. فكان الغرب يتباهى بأمرين: ديمقراطيته وحماسه لمنظومة حقوق الإنسان. ونتيجة لذلك حدث شيء من الانفتاح في العالم العربي. ففي السعودية وضع في 1992 ما سمي «نظام الحكم» في المملكة الذي صدر عن الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ 27/8/1412 هـ بخصوص طريقة الحكم وتم تشكيل لجنة برئاسة الأمير نايف لوضع النظام الأساسي للحكم. ونجم عن ذلك لاحقا مجلس الشورى الذي ما يزال قائما وأن لم يكن له دور يذكر. وخففت حكومة البحرين قبضتها الأمنية فأفرجت عن بعض المعتقلين وسمحت لبعض المنفيين بالعودة وأنشأت مجلس الشورى كذلك. كان الأمل يراود الكثيرين بأن أوضاع الحريات في العالم العربي سوف تتحسن، وأن من غير المعقول أن تتراجع الأوضاع إلى المستوى الذي كانت عليه في الثمانينيات حيث القمع الواسع على كافة الصعدان. حينها كان الرأي العام العربي بشكل عام يقظا إزاء السياسات الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي. وكانت أمريكا تسعى لتلميع صورتها بعد موجة الاحتجاجات التي شهدها العالم العربي قبيل حرب الكويت في 1991، فمارست شيئا من الضغوط على الأنظمة لتخفيف القبضة الأمنية. بعد ربع قرن يبدو الوضع مختلفا تماما عما كان متوقعا. وبدلا من أن تؤدي ثورات الربيع العربي لانفراج عام أصبحت قوى الثورة المضادة أشرس مما كانت عليه، وأصبح التغول الأمريكي والإسرائيلي غير مسبوق، بينما ازدادت رقعة الاستبداد في أغلب البلدان العربية خصوصا منطقة الخليج.

اليوم أصبحت سجون نصف دول مجلس التعاون الخليجي مكتظة بالسجون، ويوما بعد آخر تتراجع «المكتسبات» التي حققتها الشعوب العربية بنضالها الكبير وتضحياتها الواسعة. ويمكن تقديم مشروع قناة «الجزيرة» دليلا لما أنتجته «كوة النور» المذكورة. ففي المرة الأولى في التاريخ العربي المعاصر، وجدت عناصر المعارضة العربية شاشة تلفزيونية تستضيفها وتوفر للجماهير فرصة الاستماع لوجهات نظرها. ومع المؤاخذات الكبيرة على ذلك المشروع، ومقولات علاقاته مع «إسرائيل» أو «بي بي سي» أو الدعم الأمريكي، فقد كان طفرة نوعية في الإعلام العربي. وحظي ذلك المشروع بقبول الرأي العام العربي واعتبر انجازا لظاهرة الإعلام الغربي الليبرالي. فما الذي تغير حتى أصبح النظام الرسمي العربي لا يحصر موقفه بشجب ذلك المشروع فحسب، بل يطالب بوقفها. ولم يكتف الغربيون، خصوصا الأمريكيين، بموقف التفرج إزاء تلك المطالبة فحسب، بل بالمشاركة في طلب وقفها. وتمثل «الجزيرة» برغم هفواتها، المثال الأوضح على ما تمخض عن حقبة النشوة الغربية المذكورة، شأنها شأن مقولتي الديمقراطية وحقوق الإنسان اللتين تحمس الغربيون لهما كثيرا وكل ما ارتبط بمقولة «النظام العالمي الجديد» التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الأب، وهو في نشوة الانتصار. غير أن التداعي السياسي والاقتصادي والأمني خلال الحقبة اللاحقة أوصلت الغربيين إلى ما هم عليه اليوم من تراجع في القيم المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وخلال عهد بيل كلينتون. أما جورج بوش الابن فقد أعاد حالة الاحتقان السياسي على المستوى الدولي وجسد أكبر تراجع عن منظومتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، في ردة فعل سلبية وهدامة لحوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية. وهذا التراجع كان عمليا، فقد مارست أمريكا التعذيب عندما أقر الرئيس نفسه استخدام أسلوب «الايهام بالغرق» لسحب اعترافات من معتقلي تنظيم «القاعدة»، وهي ممارسة اعتبرتها المنظمات الحقوقية تعذيبا. وأقامت أمريكا سجونا سرية في ثلاثين دولة نقل إليها المتهمون بالإرهاب في رحلات جوية سرية بعد أن تختطفهم القوات الأمريكية من الشوارع أو المنازل في كافة إنحاء العالم. وقال بوش الابن كلمته الشهيرة التي اعتبرت العالم قطبين متضادين: من ليس معنا فهو مع الإرهاب. وكان هناك تعويل على باراك أوباما لإعادة التوازن للسياسة الأمريكية ولكن المؤسستين العسكرية والاستخباراتية كانتا أقوى منه، فلم يحقق الكثير من وعوده. ويسجل لأوباما قوله مخاطبا زعماء دول مجلس التعاون عندما جمعهم في كامب ديفيد: أن التهديد الأكبر «لحلفائنا العرب يأتي من داخل دولهم أكثر مما يأتي من إيران»، مشيرا إلى «السخط داخل بلادهم بما في ذلك سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمه». وقال في كلمته الافتتاحية للقمة العالمية للحكومات التي عقدت في دبي: «عندما تستثمر الحكومات فعلا في مواطنيها وتعليمهم ومهاراتهم وصحتهم، وعندما تحترم حقوق الإنسان، فإن الدول تصبح أكثر سلاما وازدهارا ونجاحا».

المشهد تغير كثيرا منذ فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. اليوم يشعر بعض حكام دول مجلس التعاون الخليجي أن أنظمتهم السياسية مدعومة بقوة من قبل واشنطن، وأن قمة الرياض التي عقدت في شهر مايو غيرت التوازن الإقليمي ضد مطالب الإصلاح والتطوير، ومع الحفاظ على الأنظمة السياسية القائمة، ودعم التوازن السياسي الذي يحمي المصالح الغربية والإسرائيلية ويتصدى لمشروع التغيير والمقاومة. وهذا يفسر بعض التطورات اللاحقة خصوصا أزمة الخليج الحالية وتصعيد القمع ومصادرة الحريات. فالتحالف الرباعي المعلن الذي أعلن استهدافه قطر يمثل ضلعا من مربع تمثل أمريكا وبريطانيا و»إسرائيل» أضلعه الثلاثة الأخرى. ومن انعكاسات هذا التحالف استهداف الحريات العامة خصوصا الإعلامية منها. فإذا كان لوسائل التواصل الاجتماعي خصوصا تويتر، دورها في تأجيج الرأي العام خلال ثورات الربيع العربي في 2011 فان هذه الوسائل أصبحت الآن محكومة بقوانين قمعية تصادر حرية الرأي والكلمة الحرة.

وهناك ثلاث دوائر تحكمها هذه القوانين: الأولى أن حكومات التحالف الرباعي المذكور أصدرت قوانين تجرم من يتعاطف مع الشعب القطري. ففي 7 يونيو أعلن النائب العام لدولة الإمارات حمد الشامسي أن «إبداء التعاطف تجاه قطر، أو الاعتراض على موقف الإمارات وما اتخذته من إجراءات ضد حكومة قطر، يعد جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة». وتابع أن «إبداء التعاطف أو الميل أو المحاباة تجاه تلك الدولة، أو الاعتراض على موقف دولة الإمارات وما اتخذته من إجراءات صارمة وحازمة مع حكومة قطر.

الدائرة الثانية تتصل بتضييق حرية الصحافة بشكل غير مسبوق. وفي هذا الجانب أصدرت وزارة الإعلام في البحرين في 4 يونيو بيانا مقتضبا نشرته وكالة أنباء البحرين الرسمية «بنا»: «قررت وزارة شؤون الإعلام وقف إصدار وتداول صحيفة الوسط حتى إشعار آخر، لمخالفتها القانون وتكرارها نشر وبث ما يثير الفرقة بالمجتمع ويؤثر على علاقات مملكة البحرين بالدول الأخرى».

الدائرة الثالثة ترتبط بالموقف إزاء قناة «الجزيرة» القطرية التي تأسست في 1996 وانطلقت من الدوحة بعد أن منحها الأمير آنذاك 150 مليون دولار. واشتهرت بمهنيتها من جهة وفتحها الباب أمام «الرأي الآخر» لتوفر للمعارضين منبرا للمرة الأولى في العالم العربي. وكانت مثيرة للجدل منذ أيامها الأولى خصوصا من قبل السعودية والبحرين. وتضمنت الشروط الثلاثة عشر التي قدمها السعودية وحلفاؤها لقطر كشرط لإنهاء الأزمة غلق قناة الجزيرة، الأمر الذي استنكرته المنظمات الحقوقية الدولية. فاعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش « ليس عقابا لقطر، بل هو عقاب لملايين العرب في المنطقة بحرمانهم من تغطية إعلامية مهمة». وهكذا دخلت منطقة الخليج نفقا مظلما آخر قد يؤدي بالجميع إلى الهاوية.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2017/07/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد