آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الرحمن مرشود
عن الكاتب :
كاتب سعودي مهتم بالشأن الثقافي والفكر والفلسفة

عزيزي كلاين لماذا لا تفهمني


عبدالرحمن مرشود

في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، شاع مرض تسبّب في الكثير من الوفيّات بين نساء أوروبا. كان يسمى ذلك المرض (حمّى النفاس)، وهو مرض قد بلغت خطورته الحدّ الذي كانت تموت فيه واحدة من كل ست أمهات تقريبا بعد فترة قصيرة من الولادة!

كان الطبيب المجريّ الشاب (إيغنز سملوايس) أحد أهم من سعى إلى فك لغز هذا المرض. لم يقتنع سملوايس بكل التفسيرات الشائعة بين الأطباء حينها، والتي كان معظمها يدور حول أمور متعلقة ببيئة المريضة وطريقة عيشها، كما أنه لاحظ أمرا محيرا وهو ارتفاع نسبة الإصابة بالمرض بين النساء اللواتي يلدن في المستشفيات مقارنة بالأخريات اللواتي ولدتهن قابلات في منازلهن. وهي ملاحظة لم يجد لها تبريرا معقولا من قبل الأطباء.

بعد كثير من البحث والتأمل توصّل سملوايس إلى استنتاج مفزع، وهو أن الاتصال المباشر باليد العارية بين الطبيب ومريضه كان مما يتسبب في نشر الوباء.

لم تكن فكرة وجود الجراثيم حينها معروفة، لذلك فإن هذه الفكرة التي تبدو أقرب إلى البداهة الآن، كانت غير قابلة للاستيعاب بسهولة في عصره.

لأكثر من سبب بدا واضحا له أن الأطباء بتنقلهم بأيديهم بين الجروح المفتوحة للمرضى كانوا يسهمون في تسميم الحالات بحمّى النفاس. توصّل إلى إجراء سهل وهو أن يتعيّن على الأطباء تعقيم أيديهم قبل التعامل مع أي مريض، وهي ممارسة لم يكن هناك من يتّبعها في مستشفيات أوروبا حين ذاك.

عمل سملوايس على فرض هذه الممارسة في النوبة التي يعمل فيها فانخفضت نسبة الوفيات إلى النصف فورا.

سعى بعد ذلك إلى إشاعة تجربته وتعميمها بين الأطباء، ولكن هناك ما حال بينه وبين ذلك. وهو أن كثيرا من زملائه كانوا ذوي نزعات محافظة، وكان على رأسهم (يوهان كلاين) مدير المستشفى الذي عمد إلى تسفيه أفكاره واتهمه بأنه مجرد شاب متطرف يثير البلبلة في المؤسسة الطبية ليصنع لنفسه اسما من وراء ذلك. أما انخفاض نسبة الوفيات في نوبته، فقد أرجعها إلى نظام التهوية الجديد في القسم!

بعد كثير من الجدل بينهما عمد سملوايس إلى نشر نظريته فأثار هذا سخط كلاين لأنه فهم أن فحواها تؤكد أن (الأطباء يقتلون مرضاهم)، بمن فيهم كلاين نفسه بطبيعة الحال. بمجرد أن انتهى عقد سملوايس رفضت إدارة المستشفى التجديد له، فوجد نفسه عاطلا بلا عمل.

استمر رغم هذا في الكتابة والتنديد بأطباء عصره الذين وصفهم بأسوأ النعوت، ولعلّ هذا مما أبطأ في اقتناع المجتمعات الطبية بنظريته رغم استنادها على شواهد معقولة. لم تنتشر عادة تعقيم الأطباء لأيديهم إلا بعد عقود من وفاته للأسف.

ربما لم يكن سملوايس موهوبا في الترافع عن قضيته رغم عدالتها، وربما أثارت طريقته من حوله فحول أغلبيتهم إلى خصوم دون أن يشعر فتأخر بذلك إجراء كان كفيلا بإنقاذ الكثير من الأرواح التي أزهقت على يد الجهل والمكابرة.

ولكن من ناحية أخرى يصعب فهم جميع أبعاد القصّة دون مناقشة دوافع أشخاص مثل (يوهان كلاين) الذي وقف كحجرة صلبة أمام ممارسة لها جدوى ظاهرة لم يتعام عنهما عمدا فحسب، بل قام باستعمال كل ما لديه من أسلحة منطقية وسلطوية في مكافحة اكتشافها. كان من الشاقّ عليه مواجهة نفسه بالاعتراف بالأخطاء الفادحة التي يدعي سملوايس أنه اقترفها بجهله، لذلك فضّل التمادي في الإنكار واستمر بسياسة (إلقاء اللوم على المريض).

إذن فنحن أمام نمط من السلوك البشري مسؤول عن استمرارنا في نزف الخسائر الاقتصادية بل والإنسانية. إن نمط (إلقاء اللوم على المريض) وهو ما يمثّله كلاين في القصّة، نمط يسهل إدراكه عند تأمّل ما حولنا. من السهل إلقاء اللوم على السائقين في تسبّبهم بازدحام مروري في أحد الشوارع، وهذا ما يفعله بعض المسؤولين عن تنظيم المرور دون بذل جهد حقيقي يلزمهم بإعادة النظر في طرقهم التنظيمية التي من الممكن أن تكون في كثير من الأحيان ذات تأثير كارثي وليس صحيا كما يزعمون.

كما من السهل خروج من يقدمون أنفسهم كحماة للفضيلة والتدين ليفسروا كل فشل أخلاقي في مجتمعهم بأنه حدث بسبب (ضعف الوازع الديني) دون أن يفكروا باحتمالية مسؤوليتهم عن ذلك الضعف، لا سيما إذا كانوا قد أخذوا الفرصة كاملة في الإشراف على تنشئة هذه المجتمعات ونموّها. فعندما تسيطر بشكل شبه كامل على تعليم مجتمعك وإعلامه ومنابره التعبدية يجدر بك التمهل كثيرا قبل إلقاء اللوم عليه وقبل النطق بعبارة تبريرية كأيقونة (ضعف الوازع الديني) التي لا تنفك لاجئا إليها عند كل ظاهرة تذكرنا بفشل أخلاقي ما. عليك التمهّل لأن احتمالات امتلاء يديك بالجراثيم لا تقل عن احتمالات امتلاء أيدي أطباء أوروبا بها في القرن التاسع عشر.

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2017/07/05

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد