آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. أمين محمد حطيط
عن الكاتب :
عميد ركن مقاعد ومفكر استراتيجي لبناني.. أستاذ في كلية الحقوق اللبنانية

حياد! نأيٌّ بالنفس؟ والطروحات العقيمة


العميد د. أمين محمد حطيط

حتى لا نغرق في لعبة المملكة السعودية ومشروع عدوانها الفاشل على لبنان، وحتى لا نستمرّ بالعمل بما وضعته أو اختلقته في خطتها لتدمير لبنان، نرى أنه بات ملحاً أن نضع الأمور في نصابها ونضع حداً لمسرحية يصدّق البعض أنها واقع وحقيقة قائمة، وعليه يجب أن نؤكد حقائق قد يتناساها أو يغفل عنها البعض، بدءاً بتحديد المعاني الاصطلاحية لبعض العبارات المتداولة وصولاً إلى واقع لبنان وأخيراً تحديد الممكن والمستحيل في السلوك الذي يطلبه البعض في هذا السياق.

ونبدأ بكلمة حياد، وهو مصطلح له معنى محدّد في القانون الدولي العام، مفهوماً وشروطاً، ففي مفهومه فإنه ينطلق من مسألة أساس هي الامتناع عن اتخاذ موقع العداء مع أحد كائناً ما كان هذا الأحد، وكذلك الامتناع عن الدخول في أحلاف أو محاور ضد أحد، ومن حيث الشروط فإن للحياد شروطاً ذاتية تتماثل بأن لا يكون للدولة مصلحة أو حق مغتصب وأن لا تكون عرضة للتهديد بخطر ثم اتخاذ القرار الداخلي باعتماد الحياد ويعقبه إنشاء القوة العسكرية الكفيلة بردّ العدوان من أي جهة أتى، وله شروط موضوعية تتعلق بقبول المحيط بهذا الحياد والالتزام به في صفقة متبادلة مضمونها عدم الاعتداء وعدم تمكين أحد من المرور عبر أيّ طرف للاعتداء على الآخر.

فإذا اعتمدنا هذا التعريف مع شروطه، نجد أنه يستحيل على لبنان أن يعلن حياده في ظلّ وجود «إسرائيل» الكيان المغتصب لفلسطين، والتي هجّرت إلى لبنان ما يبلغ اليوم نصف مليون لاجئ فلسطيني، فضلاً عن احتلالها أرضاً لبنانية وتشكيلها تهديداً دائماً للبنان بكيانه وثروته ووجوده، وعليه أنّ مجرد إطلاق فكرة الحياد اللبناني في ظلّ هذا الواقع يكون تنازلاً عن الحقوق واستسلاماً للتهديد «الإسرائيلي»، وبالتالي لا نجد غريباً أن يطالب بالحياد اللبناني من يحفل تاريخه بالعمالة لـ «إسرائيل» وتلقّى السلاح منها، وقد خاض حرباً تدميرية في لبنان بأوامرها، وهو اليوم ينفرد بطرح فكرة الحياد خدمة لـ «إسرائيل»، ولن يغيّر هذه الحقيقة تزيين الكلام وتنميقه واللعب على الألفاظ. فلا يوجد حياد تامّ وحياد ناقص، فإما أن يكون الحياد، كما ذكرنا وإما لا يكون، وفي حال لبنان من المستحيل أن يكون.

ونأتي إلى عبارة النأي بالنفس، ونرى أنّ هذه العبارة بدعة لبنانية لا يعرفها القانون الدولي العام، وبالتالي هي بحاجة إلى تحديد علمي قانوني حتى تناقش ويتخذ منها الموقف. وهنا نذكّر بأنّ من أطلق العبارة في لبنان لم يحدّد معناها وباتت كلّ فئة تفسّرها كما تريد حتى تعدّدت التفسيرات إلى حدّ التناقض، ما قاد إلى القول بأنّ استعمال العبارة من غير تحديد المضمون والمعنى إنما هو خداع ونفاق وهنا نستعرض 3 معانٍ متداولة لهذه لعبارة:

1 ـ التفسير الأول يراه أصحابه يشبه الحياد، واستعملت العبارة هذه تجنّباً لاستعمال عبارة الحياد التي تستفز البعض والتي تستلزم تأمين شروطها، وفقاً للقانون الدولي العام. وهو أمر متعذّر لذلك جيء بعبارة جديدة تعني الحياد بظنهم وتتجاوز شروطه. وفي هذا نرى أنّ الخدعة لم تمرّ لأنّ الذي رفض الحياد وأعلن استحالته يرفض تفسير النأي بالنفس المطابق للحياد مهما تذاكى أصحابه.

2 ـ التفسير الثاني فيه الفصل بين التصرّف في مواجهة العدو «الإسرائيلي» والتصرّف حيال الدول العربية، والتزام الحياد مع العرب والبقاء في حالة العداء مع «إسرائيل». وهنا تظهر مجدّداً عقبات التنفيذ. ونكفي أن نشير إلى الإرهاب الذي صدّر إلينا وكاد أن يدفع بلبنان إلى أفظع المخاطر، ثم كيف يمكن أن ينأى لبنان بنفسه عما يحدث في سورية وسورية البلد الوحيد الذي يربط لبنان براً بالمنطقة، كما أنّ على الأرض اللبنانية مليون ونصف المليون سوري نازح او لاجئ، ووجودهم بات يشكل تحدياً كبيراً للبنان في أكثر من جانب؟ وبالتالي فإننا نصل إلى نتيجة قاطعة بأنّ هذا التفسير يصعب الأخذ به.

3 ـ التفسير الثالث ويقوم على التمييز بين العرب و«إسرائيل»، ويلزم العداء والمواجهة مع «إسرائيل» بشتى السبل بما فيها المقاومة المسلحة، أما مع العرب فيقوم على القول بعدم التدخل المتبادل أيّ أنّ لبنان الرسمي وغير الرسمي لا يتدخلان بالشؤون الداخلية للدول العربية مقابل التزام الدول العربية عدم التدخل في شؤون لبنان، عملاً بقاعدة السيادة الوطنية التي تمنع التدخل في شؤون الغير.

وهنا قد يكون هذا التفسير منطقياً وقابلاً للعمل به، ولكن ووضعاً للأمور في نصابها، فإننا نرى وجوب الخروج من الغموض والخداع المغلّف بالعبارات البراقة ونرى اعتماد عبارة «عدم التدخل المتبادل في الشؤون العربية الداخلية»، ويكون كما ذكرت التزاماً متبادلاً فإذا أخلّ أحد الأطراف بموجباته جاز للآخر أن يفعل بالمثل، أو أن يرفع الأمر إلى محكمة العدل العربية بعد إنشائها وتفعيلها. أما أن يطلب من لبنان احترام سيادة الآخرين ويكون للآخرين أو يُعطي الآخرون الحق لأنفسهم بانتهاك سيادة لبنان والعدوان عليه أو على سواه من غير ردّ، فإنها قسمة ضيزى لا يقبلها منطق أو قانون.

وفي الخلاصة نرى أنّ الحركة التي أنتجتها الإقالة القسرية التي فرضتها المملكة السعودية على سعد الحريري رئيس حكومة لبنان، وبالتالي فرضتها على كلّ لبنان، أنّ هذه الحركة ينبغي أن تنتهي مفاعيلها وكفى إضاعة وقت وكفى تعطيلاً للدولة بلغ أربعة أسابيع حتى الآن. وإذا أراد البعض أن يحوّل التحدّي إلى فرصة ومن باب ضبط إيقاع التصرف والسلوك اللبناني والتعامل الندّي مع العرب، فإننا نقترح أن يشهر لبنان ويتمسك بسياسة «عدم التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية العربية»، وأن مَن يتدخل في شأن غيره عليه أن يقبل تدخل الغير أيّاً كان هذا الغير في شأنه، وعليه أن يعرف أن مَن أنفق مئات المليارات من الدولارات للتدخل في شؤون الغير، لا بل لتدمير دول الغير كلياً، عليه أن يعرف أنه ليس بمنأى عن ردات الفعل وعليه أن يتقبّل تدخل الغير في شأنه طالما سمح لنفسه بالعدوان على غيره.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2017/11/30

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد