آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الله السناوي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي مصري

صفقة القرن... إلى أين؟


عبدالله السناوي

يصعب الادعاء أن ما يطلق عليها «صفقة القرن» تقوّضت نهائياً ومخططها الرئيسي ذهب بغير رجعة مع ريح الغضب، لكنها تلقّت ضربة لا يستهان بها بأي حسابات تنظر في مستقبل الإقليم وليس في فلسطين وحدها. لم يكن الاعتراف الأميركي بالقدس «عاصمة لإسرائيل» خطوة منعزلة عن سياقها الإقليمي والترتيبات المحتملة بعد حسم الحرب مع «داعش». إنهاء القضية الفلسطينية للأبد صلب تلك الصفقة كما هو معلن ومنشور، فلا مرجعيات دولية لأي مفاوضات مقترحة، وضمّ نصف الضفة الغربية بالمستوطنات التي أنشئت عليها مسألة منتهية، ومصير القدس المحتلة محسوم، ولا استعداد لأي كلام عن حق العودة المنصوص عليه في قرارات للأمم المتحدة.

كل ما هو معروض على الفلسطينيين «دولة مسخ» بلا سيادة أو اتصال في الأراضي مقابل التصفية النهائية لأعدل القضايا الإنسانية في السبعين سنة الأخيرة. ليس هناك مفاجأة واحدة في أسباب ودواعي قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فقد كان كل شيء معلناً قبل مدة طويلة نسبياً، وهو نفسه في مؤتمر ضمه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض ناهض علناً «حل الدولتين». ربما كانت هناك مفاجأة في التوقيت.

بعض الأسباب داخلية لترميم شعبيته المتصدعة أمام ناخبيه المتعصبين على خلفية التحقيقات الجارية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات التي صعدت به إلى المكتب البيضاوي. وبعض الأسباب إقليمية خشية أن تتعقد الحسابات على نحو لا يسمح بتمرير الصفقة من دون أثمان باهظة لا تحتملها الدولة العبرية.

التزامن بين إعلان الجيش الروسي انتهاء مهمته في سوريا بعد تصفية تمركزات تنظيم «داعش» واحتفال العراقيين بإنهاء أي تمركزات مماثلة على أراضيهم واعتراف ترامب بالقدس «عاصمة لإسرائيل» والشروع في نقل السفارة الأميركية إليها... لا يمكن أن يكون مصادفة.

الأقرب إلى الحقيقة أن الاعتراف الأميركي هو استباق للتداعيات الممكنة في توزيع القوة والنفوذ بالإقليم. فوفق موازين ميادين النار، تعاظمت المكاسب الاستراتيجية الروسية، التي أعلن رئيسها فلاديمير بوتين سحب جانب كبير من قواته في سوريا؛ المهمة انتهت والحرب حسمت، وجاء وقت التسويات الكبرى. في أي تسوية من مثل هذا النوع، فإن للحقائق على الأرض كلمتها الحاسمة وخسارة الولايات المتحدة وحلفائها بما لا يمكن نفيه، حتى إن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا نصح المعارضة السورية في مفاوضات جنيف بإبداء مرونة أكبر حتى لا يهمشوا في الخطوات المقبلة. وفق الحقائق الميدانية بتعقيداتها الإقليمية، ابتعدت إلى حد كبير أشباح التقسيم عن سوريا والعراق.

كان المخطط الرئيسي لـ«صفقة القرن» أن يتمدد الدور الإسرائيلي بتحالف مع دول عربية على خلفية العداء المشترك لإيران فوق أنقاض القضية الفلسطينية ورمزية القدس ومن دون ممانعة في ضم الجولان السورية إلى دولة الاحتلال. وكان التقسيم هو السيناريو الأرجح للمصيرين السوري والعراقي من دون أن تتوقف اللعبة عندهما، لكن ما جرى لم يوافق الرهانات، فلا الحقائق الميدانية زكت المضي فيه إلى النهاية، ولا الممانعات الإقليمية الإيرانية والتركية أفسحت المجال.

هكذا، أجهض الاستفتاء على انفصال كردستان العراق وتقوضت إلى حد كبير أي رهانات في تمدد لعبة التقسيم إلى دول عربية أخرى وفق ما أطلق عليه مجازاً «سايكس بيكو جديدة»، قسمت بمقتضاها الخرائط العربية قبل مئة عام. قبل توزيع القوة والنفوذ في التسويات الكبرى التي اقتربت مواعيدها، جاء الاعتراف الأميركي عملاً استباقياً لاقتناص اللحظة بتفاهماتها الخلفية مع دول عربية أبدت استعداداً مفتوحاً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل استراتيجياً واستخبارياً واقتصادياً من دون أن يرتهن ذلك بأي اشتراطات تقتضيها المبادرة العربية، التي تنص على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧ مقابل السلام الشامل. وبعض التفاهمات الخلفية شبه معلنة بتسريبات أميركية وإسرائيلية، وبعضها الآخر قيد التكتم.

من جهة أخرى، لم تكن زيارة الوفد البحريني للقدس المحتلة غداة قرار ترامب سوى قمة جبل جليد أغلبه غاطس حتى الآن. ولم تكن تصريحات نتنياهو في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، عن أن دولاً عربية تؤيد قرار ترامب محض افتراء، أو أن دولاً أوروبية قد تحذو حذوه بالقريب العاجل مجرد تمنٍّ.

أفضل ما ينسب إلى موجات الغضب التي عمت شوارع العالمين العربي والإسلامي وامتد فعلها إلى ميادين أوروبية وأمام البيت الأبيض نفسه أنها أثارت حالة تنبه غير مسبوقة لمدى خطورة «صفقة القرن» إذا ما مضت إلى نهاياتها. للغضب قيمته في تعطيل الصفقة، لكنه لا يكفي وحده لمنع الخطر من أن ينفذ بعد أن تهدأ فورته. توسيع «كامب ديفيد» بنقل تبعية الالتزامات الأمنية على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية كان خطوة تمهيدية لضربات صفقة القرن. والكلام الإسرائيلي المتواتر عن نزع شمال سيناء من الجسد المصري كوطن بديل للفلسطينيين تمهيد آخر لنوع من التسوية تنهي الأزمة الديموغرافية في فلسطين المحتلة على حساب الأمن القومي المصري واحترام البلد لنفسه. فلا يمكن لأي بلد أن يتطلع إلى حماية أمنه القومي خارج حدوده إذا كان مستباحاً داخله.

ما لم يتوقعه ترامب أن يفضي قراره إلى إعادة ترتيب الأوراق من جديد، وعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأولويات في الإقليم. على الأهمية الأكيدة لكل مظاهر الغضب والاحتجاج هنا وهناك، فإن مفتاح الموقف داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وإذا تواصلت الانتفاضة الجديدة، فإن مستويات الممانعة ترتفع وصفقة القرن تجهض وكل سياسة توضع على ميزان حساس يحكم لها أو عليها. العمل الشعبي هو الأساس، وأي رهان آخر سابق لأوانه، فلكل حدث حديث، والحديث الآن للانتفاضة الفلسطينية الثالثة. في كل المداخلات الدبلوماسية باتساع العالم، هناك إقرار واضح بأن اعتراف ترامب يتنكر لقواعد القانون الدولي ومرجعيات الأمم المتحدة ذات الصلة، لكنه لا يترتب عليه بالضرورة إنهاء الدور الأميركي، فسوف تبذل جهود وتجرى ضغوط على مراكز القرار الرخوة في العالم العربي لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، بصيغة أو أخرى، باسم الواقعية السياسية. وباتساع مدى زخمها، سوف تتزايد الضغوط لإثارة الفرقة داخل الصف الفلسطيني، وبالتخاذل عن دعمها قد يفسح المجال لإجهاضها من الداخل. بالقدر نفسه، هناك إقرار آخر بأن اتفاقية أوسلو انتهت إلى فشل ذريع يتطلب إعادة إحياء «منظمة التحرير الفلسطينية» على نحو يتسق مع التحديات الجديدة والنظر في حل السلطة من دون أن يكون بوسع الإسرائيليين تنفيذ انقلاب يضع محلها سلطة عميلة تشبه ما جرى في جنوب لبنان قبل تحريره.

المصالحة الفلسطينية تحتاج إلى تعريف جديد لا يقتصر على تقاسم السلطة والنفوذ بين رام الله المحتلة وغزة المحاصرة، فالآفق السياسي له الأولوية الآن لاكتساب الحقوق العادلة وإجهاض صفقة القرن.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2017/12/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد