آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعد علي الحاج بكري
عن الكاتب :
أستاذ شبكات المعلومات في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، حيث يعمل منذ عام 1400هـ (1980م)rnrnحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة آستن في برمنغهم، إنجلترا؛ وعلى إجازة مُهندس مُعتمد والزمالة العليا لمعهد الهندسة والتقنية في بريطانيا.

الذكاء الاصطناعي والتعليم التلقيني للآلة غير كاف


أ.د.سعد علي الحاج بكري

قدمت الثورة الصناعية في مراحلها الأولى مبتكرات جديدة، تمثلت في آلات ومنظومات ميكانيكية، منحت الإنسان بعدا غير مسبوق لقوته المادية، مكنه من إدارة عجلة المصانع، وتحريك الروافع، والنقل عبر المسافات بوسائل جديدة، برا وبحرا وجوا، مستغنيا بذلك عن الخيول والجمال وحركة الرياح. وأعطت هذه الثورة في مراحلها التالية مبتكرات أخرى جديدة، تمثلت في تقنيات المعلومات والاتصالات، التي وهبت الإنسان بعدا جديدا لقوته الإدراكية، مكنه من التعامل مع المعلومات، تخزينا ومعالجة ونقلا، بكميات أكبر، وسرعة أعلى، وأمن أسلم، وتكاليف أقل. بذلك باتت للإنسان أذرع جديدة أقوى وأطول، وبات له أيضا إدراك معلوماتي أوسع امتدادا وأفضل أداء.

ولم يكتف الإنسان بالقوتين الجديدتين، بل قام بالجمع بينهما، لتظهر بذلك آلات جديدة، تربط الجانبين الميكانيكي والمعلوماتي؛ أي "المادي والإدراكي"، فلا تكتفي بتقديم قوة مادية جديدة فقط، بل تعطي إلى جانبها قوة إدراكية متقدمة، تعزز إمكاناتها، وتعطيها القدرة على التعلم واكتساب الخبرة. ويبرز الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence هنا كوسيلة لهذا الجمع بين هاتين القوتين، وتقديم أنواع عديدة من الروبوتات، مثل تلك التي تقود السيارات والطائرات آليا، أو التي تعمل في المصانع ومراكز التعدين، أو التي تلعب الشطرنج، أو التي تدرس سلوك الإنسان، وتكتشف توجهاته، وتستجيب لمتطلباته بشكل استباقي، كما نجد في استخداماتنا لشبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وغير ذلك. وليس الذكاء الاصطناعي أمرا جديدا، بل يلعب دورا في حياتنا منذ زمن، لكن أهميته تأتي من التعاظم المتسارع لهذا الدور في الوقت الحاضر. ولعل ذلك يأتي نتيجة للتطور المتواصل الذي يشهده هذا الموضوع، والمعطيات الجديدة التي يقدمها، حيث نجد ازديادا مطردا في البحوث المدعمة من المؤسسات الصناعية، في مجالاته المختلفة، ودورا مشهودا للجامعات فيها. ويأتي ذلك انطلاقا من التوقعات التي تقول إن هذا التطور يحمل قيمة مادية كبيرة موعودة لأصحابه.

يرتكز علم الذكاء الاصطناعي، الذي يسعى إلى تفعيل العمليات الإدراكية في الأنظمة الحاسوبية المختلفة، المرتبطة به، إلى برمجة هذه الأنظمة بأساليب جديدة غير تقليدية. والمقصود بالبرمجة هنا هو "تعليم الآلة"؛ أي توجيهها نحو القيام بالأعمال المطلوبة. وقد كانت البرمجة في مراحلها الأولى السابقة للذكاء الاصطناعي تلقينية، حيث كان المبرمج يعد برامج حاسوبية توجه عمل الحاسوب توجيها دقيقا محددا بخطوات متسلسلة للحصول على المعطيات المعلوماتية المطلوبة.

ارتقى الذكاء الاصطناعي ببرمجة الحاسوب، حيث لم يكتفِ بالبرمجة التلقينية، وإنما جعلها برمجة منفتحة ومتطورة، توجه الحاسوب نحو تنفيذ إجراءات فكرية، تسمح له بالتعلم ومتابعة البيانات، وبناء الخبرة، واستخدامها، والاستفادة منها، وهذا ما يعرف بتعلم الآلة Machine Learning. فعلى سبيل المثال يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تشمل: جمع البيانات حول موضوع مطلوب، ثم استخراج فرضيات على أساس هذه البيانات، والعمل بعد ذلك على التحقق من الفرضيات من خلال الحصول على مزيد من البيانات، ثم القيام بتوثيق ما يثبت من الفرضيات، واستبعاد ما لا يثبت، وصولا أخيرا إلى النتائج المرجوة، التي تتمثل في استخلاص معلومات جديدة، واتخاذ قرارات مطلوبة، ربما تتضمن توجيه آلات ميكانيكية مختلفة.

ولعله يلاحظ في المثال السابق وجود ثلاث مسائل رئيسة، من المفيد التركيز عليها. تتمثل الأولى في قيام الإنسان بتطوير برامج ذكاء اصطناعي تعمل على تعليم الحاسوب منهجية التفكير وبناء الخبرة واستخلاص النتائج، في إطار الموضوع المطروح. وتتجلى الثانية في قيام الحاسوب بعد ذلك باستخراج فرضيات مختلفة مما يعطى إليه من بيانات حول هذا الموضوع، ومن ثم العمل على توثيق ما يثبت منها، عبر النظر في بيانات أخرى جديدة، تزيد من خبرته. وتقدم الثالثة النتائج التي تتمثل في "معرفة جديدة مستنبطة، ربما تقود إلى توصيات محددة أو اتخاذ قرارات مختلفة. ويستطيع الحاسوب بعد ذلك اكتساب مزيد من الخبرة عبر البيانات المتجددة، وتقديم مزيد من النتائج الجديدة، التي يرجح أن تكون أكثر حكمة وأعلى موثوقية.

يجري عادة تطوير برامج الذكاء الاصطناعي تبعا للموضوع المطروح. وبين أمثلة ذلك موضوع مراقبة مستخدمي الإنترنت والشبكات الاجتماعية وتزويدهم بما يناسب توجهاتهم، وموضوع تداول الأسهم والأوراق المالية والتوصية بالشراء والبيع، وموضوع قيادة الطائرات والسيارات والآلات المختلفة الأخرى، لكن التوجهات البحثية تحاول التركيز على تقديم أسلوب موحد لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي، ويعرف هذا الأسلوب بـ"المنهجية الخوارزمية الرئيسة Master Algorithm".

يركز توجهان من توجهات بناء برامج الذكاء الاصطناعي على محاولة محاكاة التكوين الحيوي لإمكانات الإنسان. في هذا الإطار، يهتم أحد التوجهين بتقديم محاكاة حاسوبية لدماغ الإنسان والشبكة العصبية التي يتمتع بها Neuro-Net Computing، بما يتضمن محاكاة كل من تكوين الدماغ والنشاطات المختلفة التي يقوم بها. ويعمل التوجه الآخر على محاولة تطوير محاكاة حاسوبية لمنهجيات الاختيار الجيني للأفضل واستبعاد الأدنى Genetic Algorithms.

وتهتم التوجهات الأخرى لبرمجة الذكاء الصناعي باعتماد أساليب التفكير العلمي الرياضي. ومن ذلك - على سبيل المثال - تبني أسلوب البحث عن فرضيات يمكن أن تملأ فراغات معرفية في الموضوعات المختلفة، ثم العمل بالخبرة على التحقق منها، واستخلاص النتائج من ذلك. ثم هناك أيضا، أسلوب المقارنة بين ما هو معروف وما هو غير معروف، للتوصل إلى معطيات جديدة. ويضاف إلى ذلك استخدام الأساليب الرياضية والإحصائية المختلفة الأخرى في التحقق من المعلومات والفرضيات. ويرى كثير من الباحثين أن الأمل بالوصول إلى المنهجية الخوارزمية الرئيسة يكمن في الاستفادة المشتركة من جميع التوجهات المطروحة دون استثناء.

سخرت البرمجة التلقينية الحاسوب لتنفيذ أوامر معلوماتية محددة مسبقا دون زيادة ولا نقصان، لكن ذلك لم يكن كافيا لبناء أي ذكاء اصطناعي فيه، والعمل بالتالي على تحقيق استفادة أكبر من إمكاناته، ثم جاء الذكاء الاصطناعي ليحمل معه مبادئ ترتقي بهذه البرمجة، وتسمح لهذه الآلة المعلوماتية بالتعلم واكتساب الخبرة واستنباط معارف جديدة ومفيدة. ولا شك أن إمكانات الإنسان، المتفوقة بالطبع على إمكانات الآلة، تحتاج إلى مثل ذلك، تحتاج إلى الارتقاء بالتعليم، من التعليم التلقيني، إلى التعليم الذي يطلق ذكاء الإنسان ويفعل إمكاناته، ويعزز الاستفادة منها.

صحيفة الاقتصادية

أضيف بتاريخ :2017/12/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد