آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد علي القاسمي الحسني
عن الكاتب :
الطالب الجزائري

في أربعينية الفلاح.. هل من متعظ؟


محمد علي القاسمي الحسني

    يقول الله في محكم تنزيله ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا ) ، هذا النوع من الرجال قليل عددهم ، رجال يسطرون أسمائهم في التاريخ و الوعي المجتمعي للشعوب بأعمالهم الفكرية مثل سقراط أو ابن رشد و عبر قيادة الحركات التحررية ضد المستعمر مثلما هي حالة تشي غيفارا و سلطان الأطرش ، و نظرا لاستحالة الإلمام بجل المجالات البحثية مع تطور العلم و زوال معظم الدول الاستعمارية فان القلم غدى الوسيلة الأبرز للنضال ، و لدى العرب أقلام حافظت على نفس المبادئ و الأسس التي بدأت بها الكتابة فلم يغرها المال يوما ولا أخافتها التهديدات اليومية بالقتل ، فكان الموت كمدا لأجل فلسطين خير تشريف لمسيرة أحد الكتاب النبلاء اللذين كان لي شرف معرفتهم .

    في مدينة بوسعادة الغناء التي تبعد عن العاصمة الجزائرية حوالي ثلاثمائة كيلومتر كان يقيم الفلاح إسماعيل القاسمي الحسني و ذلك هو التوقيع الذي كان يختم به مقالاته المنشورة طوال تسعة سنوات لم ينهها إلا قضاء الله و قدره ، و قد التقيت طوال مسيرتي البحثية بعديد المثقفين لكن الفلاح إنسان قل مثيله في التواضع و الرقي الفكري و الأخلاقي فلم تكن تخلو الجلسات معه من النقاشات العلمية و الأدبية حيث أن إلمامه بالعلوم السياسية و الشرعية و كذلك احتواء مكتبته الغنية على موسوعات التاريخ و الفقه و الأدب جعله ملما بهذه المجالات ، كما أن إعجابه منقطع النظير بالمفكر مالك بن نبي و العلامة الشهيد محمد رمضان البوطي اللذان لا يخلو كلامه من ذكرهما يعد علامة فارقة في وقت لم يعد لكلا القامتين ذكر على الألسن و هذا ما جعله دائم التأسف لعدم اهتمام العرب بالدرر التي تركها هؤلاء.

    كان الفلاح حاله حال الأقلام الفذة النيرة مدركا لكل المخاطر المحدقة بالأمة فيحمل قلمه للكتابة كلما لزمت الحاجة و ألمت مصيبة بالعرب حيث ظل يقول ( لا نخرج من مصيبة حتى تظهر مصيبة جديدة ) ، و رغم اهتمامه بأرضه الزراعية التي يقتات منها دريهمات قليلات لا تكاد تكفيه أحيانا لدفع ثمن الأدوية التي أجبر عليها بعد علاج طويل من مرض السرطان ، إلا أنه بقي دائم المتابعة لآخر المستجدات السياسية و الاطلاع على أحدث إصدارات الكتب التي كان يقتات عليها عقله أكثر من اللقيمات القليلة التي يأكلها على قلتها نظرا لكونه زاهدا و عديم الترف قانعا بما لديه من رزق ، فأذكر أنني زرته في مرات كثيرة و وجدته صابرا على قلة المال نظرا لتأثر أرضه بمخلفات العشرية السوداء فكان يقول ( هكذا هم آل البيت قليل مالهم بالغ أثرهم ) ، فدائما ما عرفته قنوعا بما لديه و دائم التأسف لغياب الإنسانية لدى أولئك البرجوازيين اللذين تمتلئ موائدهم بما لذ و طاب تاركين فقراء المال جوعى البطون .

    إن عدم إدراك المثقف للمصير التاريخي و الاجتماعي الخطير الذي يمر به مجتمعه و دولته ، كارثة كبرى يندى لها الجبين ليسقطه من صنف المثقفين لصنف العوام و السوقة ، الأمر الذي لا يجعل فرقا بينه و بين بقية الأفراد فوظيفة هذا الأخير هي التنبيه للمرحلة الحرجة التي بها مجتمعه و تقديم النقد للنظام الحاكم في حالة الخطأ لأجل الوصول إلى نموذج صحيح يسير وفقه المجتمع و الدولة و هذا لا يتأتى له سوى عبر المطالعة و التحليل و التمحيص الدائمين في التقارير و أمهات الكتب بلا تحيز أو عاطفة في الكتابة و الغريب أن هذه الوظيفة التي يضطلع بها كبار الأساتذة و الباحثين في دول الغرب عبر كتبهم لا تتأتى للكاتب العربي الحر أي الذي لا يداهن الأنظمة و يقبل بدوس دور النشر على أفكاره أو سرقتها ، فكانت الجريدة المتنفس الوحيد لتصدير درر الفلاح إلى القارئ العربي ، بداية من سنة 2008 مع جريدة القدس العربي ثم انتقاله لجريدة رأي اليوم و اللتان نقلتا آراءه و أفكاره بكل صدق و موضوعية بدءا من نقده للواقع المرير للجزائر وصولا الى رأيه في العراق مرورا بسلسلة مقالات عن الحرب الكونية ضد سوريا و التي وثق لها في كتاب وسمه بأوراق دمشقية و كان ينوي أن يلحقه بكتابين آخرين أحدهما عن دور حركة المقاومة في الحفاظ على الكينونة العربية و الثاني يجمع به معظم مقالاته في جزأين مع مذكرات للتوثيق ، و لكن الموت سبقه .

    ان المرء يتأسف لما وصل له الواقع العربي ، فوسط دائرة الروتين اليومي التي يعيشها المجتمع العربي و المفروضة عليه من قبل النسق العام ، ما يجعله أحيانا لا يختلف عن المجتمع البهيمي الأول حسب تعبير المفكر الايطالي فيلفريد باريتو ، فوحدها العقول النيرة تختلف عن هذا الصنف فهي التي تناضل لتطوير و إفادة العقل البشري ، و لكن بعد مقالات الفلاح التي نبه فيها للأخطار المحدقة بالأمة العربية و قدم مقاربات مختلفة للتخلص منها حاله حال الكثير من الكتاب اللذين يخافون من زوال أمة تسمى عربية ، إلا أن صفات العصر الطباشيري لاتزال سائدة في محور طنجة – بغداد ليس لعدم الوعي بل للسقوط

الدائم في أخطاء السابقين و الولع بتقليدها لا شعوريا و الاستهزاء بأفكار المعاصرين بل و حتى تكفيرهم كما وقع مع فرج فودة و نصر حامد أبو زيد ، فهل من وعي جماعي بما كتبت قامات الفكر العربي الحرة التي لم تكن تهدف سوى لرؤية بلاد العرب مزدهرة تنعم بالسلام و التطور مثلها مثل بلدان الغرب و لكن يبدو أن ذلك  الحلم لازال بعيدا بسنوات ضوئية.

رحل إلى الأبد الفلاح في صمت ، كما كان يكتب في صمت بعيدا عن أضواء الشهرة ، تاركا وراءه إرثا فكريا هاما و حلما بالاحتفال بنصر العرب في قلب القدس ……

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/01/20

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد