آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

الدواء سلاحا… هذا ما يفعله الديكتاتوريون


د. سعيد الشهابي

الفجور في الخصومة سمة تميز العديد من أنظمة الحكم في العالم العربي، في تعاملها مع معارضيها. ويتجلى هذا الفجور في مستويات التنكيل بالمعارضين السياسيين، وغياب القانون الحاكم عمليا في أساليب معاملة سجناء الرأي، والتفنن في إخفاء الحقائق وإنكار الاضطهاد والقمع المنظم. فالسجن يفترض أن يكون هو العقوبة في حال ارتكاب الجريمة التي تستدعيه، ولا يضاف لها شيء. فعندما يصدر القاضي قرارا بسجن شخص أو مجموعة من الأشخاص فأن ذلك هو العقوبة التي ينص عليها القانون، حتى في دولنا التي يغيب عنها التداول المدني السلمي ضمن توافق مجتمعي حقيقي.

والسجن يعني إبعاد الشخص عن المجتمع وحرمانه، عقوبة له لما اقترفه من جرم، من التمتع بالبعد الاجتماعي من الحياة. وليس المقصود من السجن إيذاء الشخص جسديا أو حرمانه من احتياجاته الطبيعية كالطعام أو النوم أو الرعاية الصحية. فلقد كرم الله الإنسان (ولقد كرمنا بني آ دم)، ومنحه حصانة من الموت أو القتل إلا في حالات الجريمة العظمى كإزهاق الأرواح (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). وبرغم أن المواثيق الدولية تحرم المعاملة الحاطة بالإنسانية والتعذيب إلا أن النظام العالمي الذي يحكم العالم اليوم لا يمتلك أدوات تنفيذية لضمان الالتزام بحسن معاملة السجناء السياسيين. ويزيد من المأساة أن أغلب الذين يتعرضون للتنكيل وسوء المعاملة لم يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، بل أنه ضحية لحاكم سياسي ديكتاتوري يصادر الحريات خصوصا حرية التعبير. وعندما يكون النظام الحاكم ضعيفا فانه يخشى الكلمة التي تنطلق من أفواه معارضيه، فتصبح كالرصاصة في أثرها. ولذلك أصبحت الأنظمة القمعية تعتبر معارضيها إرهابيين وان لم يرتكبوا أي جرم ينص عليه القانون. فعندما أزهقت قوات الاحتلال الإسرائيلية يوم الخميس الماضي أرواح 15 فلسطينيا بدم بارد فإنما انطلقت بدوافع العداء والرغبة في استئصال أهل الأرض، ولكن ما دوافع الحاكم الديكتاتوري حين يمارس الانتقام وينكل بالأبرياء خارج القانون؟

في الأسبوع الماضي «فاز» الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالانتخابات الرئاسية، في «حملة انتخابية» اقتصرت على شخصه عمليا، مع مرشح آخر هو موسى مصطفى موسى، رئيس حزب الغد الذي قال في حوار مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية إن «أكثر المصريين لا يعلمون بوجودي». وقال: كنت سأنتخب السيسي (في حال خاض الفريق أحمد شفيق الانتخابات منافسا). كانت العملية برمتها مسرحية هزيلة الإعداد والإخراج، لم يكن نصيبها من العالم إلا السخرية والازدراء. هذا الرئيس الذي «فاز» بأكثر من 90 بالمائة من الأصوات فتح سجونه على مصراعيها لتضم أكثر من 50 ألف سجين سياسي، ومارس بحق خصمائه السياسيين أبشع أصناف التنكيل. هذا «الرئيس» يستخدم الدواء والعلاج سلاحا ضد الرئيس المنتخب بعد أن أنقلب عليه وسجنه. الدكتور محمد مرسي يعاني من الأمراض ما يهدد حياته. فما الجرم الذي ارتكبه؟ أن الشعب انتخبه رئيسا فغضبت قوى الثورة المضادة التي تقودها السعودية والإمارات و «إسرائيل». وفي شهر أيلول/سبتمبر الماضي توفي في السجن الأستاذ مهدي عاكف، المرشد السابق لجماعة «الإخوان المسلمون» بعد أن قضى شهورا مريضا بدون علاج مناسب. وحملّت الجماعة ـ في بيان ـ السلطات المصرية المسؤولية الكاملة عن وفاة مرشدها السابق، لإصرارها على «حبسه والتنكيل به يرغم مرضه وتقدم عمره فتعمدت قتله».

في عالم انسلخ من الحياء والإنسانية لم يعد الانقلاب العسكري غير المشروع على الرئيس المنتخب أمرا مرفوضا أو مثيرا للجدل. فالسيسي يستقبل على أعلى المستويات في عواصم الغرب.

هذا الغرب نفسه وقف مع بريطانيا في أزمتها مع روسيا بعد اتهامها بتسميم أحد عناصر أجهزة استخباراتها مع ابنته في مدينة «سالزبري» البريطانية، وطرد مع الولايات المتحدة الأمريكية حوالي مائة دبلوماسي روسي، ولم يتخذ أي إجراء ضد حكومة العسكر في مصر برغم ثبوت تعذيبها السيد جيوليو ريجيني الباحث الإيطالي في جامعة كمبريدج البريطانية حتى الموت بعد اختطافه على أيدي عناصر الاستخبارات المصرية في يناير 2016. فكيف سيتخذ «العالم الحر» أي إجراء ضد رئيس عسكري انقلب على رئيس منتخب؟ الديمقراطية لم تعد مقدسة لدى عالم الغرب بعد أن سمح لشخص مثل دونالد ترامب بالصعود لأعلى منصب في الولايات المتحدة الأمريكية وراح يمارس بلطجة سياسية مقيتة أمام مرأى العالم ومسمعه. ولم يصدر حتى الآن أي موقف رسمي غربي يطالب السيسي بوقف استخدام الدواء سلاحا ضد الخصماء السياسيين.

الدواء سلاحا؟ هذا ما تستخدمه السلطات في البحرين أيضا، وهو مصداق آخر للفجور في الخصومة. فالمئات من المعتقلين يحتاجون لرعاية صحية عاجلة لأمراض كمرض الخلايا المنجلية الحاد والسرطان الذي أصيب به شباب كثيرون في عمر الزهور، وأمراض القلب لدى كبار السن والعديد من الأمراض الجلدية المعدية. بعض هؤلاء أشخاص تجاوز السبعين من العمر مثل الأستاذ حسن مشيمع الذي يعاني من سرطان الغدد اللمفاوية ولم يسمح له بلقاء عائلته منذ عام كامل، أو الخروج في الهواء الطلق. وهناك محمد جواد برويز الذي يعاني من أمراض القلب أيضا. وفي الأسبوع الماضي تبرعت «اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان التي أسست قبل أربعة أعوام بتبرير ساحة وزارة الداخلية التي حرمت المعتقلة السيدة هاجر منصور من تلقي العلاج المناسب، وبدلا من أن تتقصى الحقائق وتطلب زيارة سجينة الرأي المحكومة بثلاث سنوات انتقاما من زوج ابنتها الناشط، قالت أنها «اتصلت» مع الجهات المختصة في وزارة الداخلية وان هذه الجهات أخبرتها «أن الحالة الصحية للسيدة هاجر طبيعية ومستقرة».

الدواء سلاحا؟ هذا السلاح يستخدم في حرب اليمن على نطاق واسع إلى جانب الأسلحة الأخرى خصوصا الطائرات التي تقصف الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس بدون توقف. شبح الموت يخيم على كل زاوية من اليمن منذ ثلاثة أعوام هي عمر الحرب التي تقودها السعودية على هذا البلد العربي العريق الموغل في الحضارة والدين. وتستخدم أموال الشعوب سلاحا ضدها بدون وازع. الهدف من حرمان السجناء من الدواء ينافي التزامات الدولة التي يفترض أن تكون كافة أجهزتها محايدة أولا، وفي خدمة المواطنين ثانيا، وثالثا: أن لا تسمح للسياسيين بالتدخل في عملها. ولكن عندما تسخر كافة أجهزة الدولة لخدمة المجموعة الحاكمة، سواء كانت حزبا أم عائلة أم أفرادا، فأنها تكون قد فقدت مبررات وجودها، وأصبح من الضرورة تحريرها من أيدي من يستغلها أيا كان. فمنع الدواء والغذاء عن اليمنيين من قبل قوات التحالف الذي تقوده السعودية ساهم بشكل مباشر في انتشار الأوبئة ووفاة الأطفال وعجز الأطباء عن القيام بواجبهم في علاج المرضى. أما استهداف المستشفيات فلم يتوقف، ومنها ما كانت منظمة «أطباء بلا حدود» تديره. ففي 18 آب/أغسطس 2016 أعلنت المنظمة أنها قررت سحب كوادرها من ستة مستشفيات تدعمها في محافظتي صعدة وحجة شمال اليمن، بعد أيام من تعرض مستشفى تدعمه لضربة جوية نتج عنها 19 قتيلاً. وكاد الأمر نفسه يحدث لدولة قطر التي حاصرتها دول التحالف الذي تقوده السعودية بفرض حصار جوي وبري وبحري عليها بدعاوى مختلقة. ففرض الحصار بهذه القسوة يؤدي عادة لتوقف الغذاء والدواء، كما حدث للعراق ما بين 1991 و 2003 عندما فرض الحلفاء حصارا مماثلا. وكان من نتائج ذلك نفاد الأدوية من المستشفيات ووفاة آلاف الأطفال. وما ساهم في فشل الحصار المفروض على قطر أن لديها حدودا مفتوحة مع إيران، فلم تستطع السعودية والإمارات فرض حصار كامل. مع ذلك تضررت قطر كثيرا من هذه العقوبات الجائرة التي تهدف لتركيع ذلك البلد الخليجي الذي أسس لإعلام عربي منفتح ورفض أن يكون أداة بأيدي غيره.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2018/04/02

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد