آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. هشام أحمد فرارجة
عن الكاتب :
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

ترامب: استعداء الأصدقاء واستفزاز الحلفاءْ حرب اقتصادية شعواء

 

د. هشام أحمد فرارجة

  إن من أكثر ما يتباهى به الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب هو أنه رجل الصفقات. فعدا عن إصدار كتاب عام 1987 يحمل اسمه واسم الصحفي توني شوارتز بعنوان “فن الصفقة”، فانه يجد في ثروته كواحد من أصحاب رؤوس الأموال في الولايات المتحدة، والتي تزيد على ملياري دولارا مبررا كافيا للتبجح والاستعراض.
  ولكن لا يختلف المحللون في أن تكوين الثروة عن طريق العمل في العقارات والمقاولات شيء، وتحقيق الانجازات في عالم السياسة، لا سيما الدولية منها، شيء آخر. فخاصة السياسة الخارجية، وحتى الاقتصادية منها، لها محدداتها ومتطلباتها ومقوماتها التي تختلف جذريا عمّا تمليه المصلحة الشخصية من مقتضيات. فرجال الدول يصنعون الوقائع والأحداث، وليس الثروات والأموال، كما الأثرياء. ورجال الدول يتسمون بالنظرة الثاقبة للأمور، وبشكل شمولي، وليس بالخضوع لإغراءات اللحظة بما يمكن أن تحققه من مكاسب آنية. وإذا ما قام صانع السياسة التي هدفها خدمة المصلحة القومية لبلده باعتماد أدوات العمل الشخصي لخدمة المصالح الذاتية، فان النتائج قد تكون وخيمة على صانعها وعلى البلد المعني بشكل عام.
  هكذا تبدو الصورة عندما قام ترامب مؤخرا بفرض تعرفة جمركية بنسبة تصل إلى 25% على بعض الصادرات الأوروبية والكندية والمكسيكية إلى الولايات المتحدة، كالألمنيوم والصلب. وإذا ما تجاوزنا الحديث عن المكسيك للوهلة الأولى، كون ترامب يتعامل معها أصلا بازدراء واستعلاء، فان وقع تنفيذه لهذه السياسة على كندا والاتحاد الأوروبي كان كالصاعقة. فلم يلبث أن أعلن البيت الأبيض عن نيته فرض هذه التعرفات الجمركية، حتى جاءت ردة الفعل الكندية والأوروبية مزلزلة. فضمن أجواء تعتبر الثقة فيها مهزوزة عند حلفاء الولايات المتحدة تجاه ترامب بسبب تصريحات وخطوات عدة سابقة، سارع رئيس الوزراء الكندي، جستين ترودو إلى التلميح بتشقق التحالف الأمريكي الكندي ولوصف الخطوة التي قام بها ترامب بالخيانة للشعب الكندي والقوات المسلحة الكندية التي وقفت مع الولايات المتحدة في مختلف حروبها. وفي ذات السياق، أوضحت وزيرة الخارجية الكندية، كرستيا فريلاند أن بلادها سترد بالمثل على الخطوات الأمريكية في الحال. وتعبيرا عن غضب فرنسي لا يمكن إخفاؤه إزاء سياسة ترامب الجمركية، صرح وزير المالية، برونو لمير بأن هذه الخطوة خطيرة جدا إلى حد أنها ستتسبب في اختلالات هائلة في التجارة العالمية. الرئيس الفرنسي، يمانويل مكرون ذهب إلى حد وصف إجراءات ترامب بغير القانونية، منبها إلى أنها تشبه إجراءات الحمائية الوطنية التي ساهمت في تشكيل بيئة مناسبة لاندلاع الحرب العالمية الثانية. وأما الاتحاد الأوروبي، فقد أعلن بدوره على لسان رئيس المفوضية الأوروبية، جين—كلود جنكر عن خطته للرد بالمثل ولتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية، كون هذه الخطوة تتناقض مع أسس تدعيم التجارة الحرة بين دول العالم. وإذا ما كان هذا هو رد فعل الأصدقاء، فان ما لم يعلن من رد فعل المكسيك قد يكون أكثر أهمية مما تم إعلانه، وذلك بحكم التوترات القائمة أصلا بين البلدين، خاصة بعد وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، بسبب سياساته وتصريحاته العنصرية والمعادية للشعب المكسيكي، خاصة المهاجرين. فلم يكن مفاجئا أن سارعت الحكومة المكسيكية فورا للتصريح بأنها سترد بالمثل على الصادرات الأمريكية لبلادها.
  بناء على ما تقدم، يتضح أن العلاقات الأمريكية مع كندا والاتحاد الأوروبي والمكسيك في طريقها إلى المزيد من التأزيم والاحتدام إلى حد اندلاع حرب اقتصادية، تجارية ومالية بين أطراف كانوا يعتبرون أعضاءً في قطب دولي واحد متجانس. فما كان يعرف باتفاقية نافتا, أي اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية قد أسدل الستار عليها الآن.
  انعكاسات مثل هذه الحرب قد لا تقف عند حدودها الناعمة سالفة الذكر، وإنما في الأرجح قد تتعداها لتنال من السياسات العليا التي تنظمها معاهدة حلف شمال الأطلسي مع عدد من الدول الأوروبية وكندا. فهنا تجدر الإشارة إلى أن ترامب عندما كان مرشحا للىئاسة كان قد هاجم حلف شمال الأطلسي واعتبره منظمة فاقدة لجدواها وفاعليتها، حيث طالب الأوروبيين حينها بدفع مستحقات مالية إضافية للولايات المتحدة مقابل ما تقدمه الأخيرة لهم من حماية ودعم. ولذلك، قد تكون هذه الجولة من المنافسة الاقتصادية مجرد البداية لتفسخ التحالف الأطلسي المعمول به منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

قليلا ما يدركه ترامب أن الهدف الذي يعتقد بأنه سيحققه سيكون ذات الهدف الذي سينسفه. فإذا ما كان يعتقد أن هذه الخطوة سوف تدعّم مقولته “أنّ أمريكا تأتي أولا”، وذلك عن طريق تنشيط الإنتاج المحلي، ومن ثم، دفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام، فأن كثيرين من المحللين الاقتصاديين يرون الأمور من منظور مغاير. ففي عالم تحول الى قرية دولية صغيرة، بالفعل، فان المواطن الأمريكي هو الذي سيدفع ثمن المنتوجات المستوردة المرتفع، وهو الذي ستقع على كاهله أعباء العزلة السياسية والاقتصادية التي يفرضها عليه ترامب بسياساته وتبعاتها.

  وما دامت عطسة في نيويورك قد تسبب رشحا في باريس، كما يقال، فأن خطوة ترامب هذه ربما تحل كالهواء المنعش على إيران التي استهدفتها إدارة ترامب بالعقوبات الاقتصادية مؤخرا. فترامب لم يترك كثيرا من الخيارات للعديد من الشركات الأوروبية المستهدفة بتعرفات جمركية مرتفعة على صادراتها للولايات المتحدة، إلا وأن تستمر في علاقاتها الاقتصادية مع إيران، على خلاف ما ترمي إليه خطة ترامب الهادفة إلى تضييق الخناق على إيران، عن طريق الشركات الأوروبية.

  فاستعداء الأصدقاء واستفزاز الحلفاء لا محالة سوف يدفع بهم أكثر نحو خصوم المستعدي والمستفز. والخصوم في هذه الحالة لا ينحصرون بإيران، خاصة وأن روسيا قد استهدفت من قبل بعقوبات اقتصادية ودبلوماسية هائلة، وأن الصين سوف تكون هي محور المركز لمثل هذه الحرب الاقتصادية، التجارية والمالية التي تنتجها سياسات ترامب المتخبطة.

  فالقصة مع الصين تأخذ بعدا أكثر جدية وخطورة وتعقيدا من كل ما ذكر. فلا يكاد ترامب يضمر ضغينة لبلد أكثر مما يضمره للصين. فقد يكون مستحيلا العثور على تصريح إعلامي لترامب، حتى قبل أن يترشح للرئاسة، دون أن ينتقد فيه الصين بشكل لاذع، وأن يحط من شأن الساسة الأمريكيين، بسبب ما اعتبره عدم قدرتهم على التعامل مع الاقتصاد الصيني المتمدد. وقد يكون أكثر ما صبغ حملة ترامب الانتخابية هو تكراره الوعيد والتهديد للصين بالنيل من اقتصادها وتجارتها وعملتها. ولذلك، لم يكن مفاجئا أن يصدر ترامب مرسوما رئاسيا بفرض تعرفة جمركية على الصادرات الصينية للولايات المتحدة بنسبة 25% والتي ستطال 50 مليار دولارا من تلك الصادرات.

  أن أحجية العلاقات الصينية الأمريكية مدهشة بالفعل. فرغم أن الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة ما زال يعتبر الأضخم في العالم حتى الآن، إلا أن الولايات المتحدة تعاني من عجز مالي بنسبة مذهلة تصل إلى 21 ترليون دولارا، أي أن الميزانية الأمريكية لا تستطيع تصريف شؤون البلد دون الاستدانة المستمرة. المفارقة تكمن في أن الدولة المقرضة الأكبر والتي تمكن الميزانية الأمريكية من البقاء على قيد الحياة هي جمهورية الصين الشعبية، بحيث تقرض الولايات المتحدة حوالي 1.8 ترليون دولارا، أي ما يعادل عشر المبلغ الإجمالي المقترض. المفارقة الأخرى هي أن اليابان كانت من قبل هي الدولة الأولى في العالم التي تغطي عجز الميزانية الأمريكية. وما زال المتابعون يذكرون جيدا كيف أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب كان قد أغمي عليه، وعلى الهواء مباشرة، أثناء زيارة له لتوكيو لتسوية الأوضاع الاقتصادية بين البلدين. المهم في الموضوع هنا هو توضيح أن الولايات المتحدة التي تعتبر القوة العظمى اللأكبر في التاريخ هي ذاتها الدولة المقترضة الأعظم في العالم على مدى العصور.

  وعلاوة على إبقاء الصين للميزانية الأمريكية على قيد الحياة، فأن العجز التجاري بين الصين والولايات المتحدة يصل إلى 150 مليار دولارا لصالح الأولى. إزاء هذه الصورة، يعتقد ترامب بأن فرض تعرفة جمركية مرتفعة على الواردات من الصين سوف يساهم في تنشيط عجلة الاقتصاد الأمريكي، بحيث يحفز الشركات والمصانع الأمريكية على إعادة مقار عملها للتراب الأمريكي، ومن ثم خلق فرص عمل محلية جديدة.

  غني عن القول بأن الصين قد هددت بالرد على تنفيذ أية خطوة أمريكية من هذا القبيل. وغني عن القول أن الصين تملك زمام المبادرة الآن، بحكم قوة اقتصادها ونجاحها في خلق حالة من الاعتمادية من قبل الاقتصاد الأمريكي عليها. وغني أيضا عن القول أن المحاولات الأمريكية لإجبار الصين على اتخاذ خطوات اقتصادية مناوئة لمصالحها القومية لن يكتب لها النجاح. فواضح أن زيارة وزير التجارة الأمريكي، ولبر رأس للصين مؤخرا لن تحدث التقدم المنشود، بل قد تكون الشرارة لتوتير العلاقات الاقتصادية أكثر بين البلدين. وواضؤ أيضا أن ما يقوم به ترامب هو مناقض لماهية العلاقات الأمريكية الصينية المتداخلة، والتي كان قد أرسى قواعدها وأسسها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر.

السؤال المهم هنا هو كيف ستؤثر هذه الحرب الاقتصادية، ليس على العلاقات الأمريكية مع الدول المستهدفة بالحد من صادراتها للولايات المتحدة، فحسب، وإنما أيضا، بل الأهم، على العلاقات بين الدول المستهدفة نفسها؟ فهل يا ترى سوف تتعزز المصالح المشتركة بين الاتحاد الأوروبي، كندا، أيران، المكسيك، الصين وروسيا؟ كيف يمكن لذلك كله أن يؤثر على موقع الولايات المتحدة كقوة كونية، اقتصاديا، وسياسيا وعسكريا، خاصة إذا ما كانت الخطوة التي قام بها ترامب تشكل مقدمة لطلاق عسكري مع باقي الأعضاء في حلف الأطلسي، إلا إذا ما ذعنوا لابتزازه؟ هل يا ترى يعتقد ترامب أن القيادة في كورية الشمالية التي يهينها مساءً ويغازلها صباحاں غائبة عن كل هذه التطورات، خاصة وأنها تراقب كيف يفعل ترامب الأفاعيل بالأصدقاء والحلفاء، فكيف بالخصوم والأعداء؟

  لربما يكتشف ترامب، ولكن بعد فوات الأوان، بأنه بخطواته هذه يرتكب إحدى أفظع حماقات القرن. فالتلاعب مع الحلفاء عادة ما يقود إلى أكثر الحروب فتكا وتدميرا. فهو أمر معروف أن من أبسط أبجديات العلاقات الدولية هو أن التغير والتبدل المتخبط في التحالفات كان أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الحربين العالميتين، الأولى والثانية. فأين نحن من نسيج التحالفات الدولية في هذه المرحلة؟

  منطق السياسة، رغم اعتقاد الكثيرين أنه لا منطق في السياسة ولا سياسة في المنطق، يقتضي تدعيم العلاقات والتحالفات، خاصة عندما تحتدم الخصومات. ما يقوم به ترامب هو محاولة إشباع لذاته، دونما حسابات للإبعاد والعواقب على بلده وعلى العالم.

-أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/06/04

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد