آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

ماذا يُخفي الصراع على تشكيل الحكومة؟


د. وفيق إبراهيم

يُسجِّل اتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً مبرماً منذ تسعينيات القرن الماضي، انتقال السلطة من «المارونية السياسية» إلى مجلس الوزراء مجتمعاً.. هذا على المستوى النظري.. لكن ما حدث فعلياً كان انتقال إدارة البلاد بشكل كامل إلى «الحريرية السياسية التي نجحت بالاستيلاء على صلاحيات مجلس الوزراء مجتمعاً.. هذه الصلاحيات التي كانت في عهدة رئيس الجمهورية وانتزعها «الطائف» منه. وهذا تمّ إنجازه بتأييد الرعاة الإقليميين للطائف، عبر سورية التي كانت في لبنان بجيشها الذي كان يقوده اللواء غازي كنعان الصديق الحميم لرفيق الحريري. إلى جانب الدفق المالي السعودي واللبناني العام لمن احتاج إلى عيار أقوى من الإقناع.. من دون إهمال الدور الأميركي الذي جذب إلى دائرة الحريرية السياسية، قادة الكنيسة. فأصبح مجلس الوزراء في «الجيبة الصغيرة لأبي بهاء»، حتى أنّ أي قرار صغيراً كان أم كبيراً.. لا يجتاز جلسات الحكومة إلا بالإيحاء الحريري المسبق.

تأييد غازي كنعان له، أدى إلى مشاركة الرئيس بري والوزير جنبلاط في الحلف الحريري الكبير.. ما أنتج استسلاماً سياسياً طوائفياً له ومباركة «مقدّسة» من كل المراجع الدينية عند تنوّعات المسيحيين والسّنة والشيعة والدروز.

هذه هي الطبقة السياسية اللبنانية «المرسونة» بالعاملين الإقليمي والدولي تاريخياً، وبجرعات مالية حسب الأحجام في معظم الحالات أما ما أنجزته الحريرية السياسية عملياً، فتجسّد بنجاح الرئيس بري في تزويد الجنوب ببنية تحتية كبيرة على حساب الضاحية والبقاع وجزء من جبيل. وتمكّن الوزير جنبلاط من تزويد الشوف لمحاتٍ جمالية لم تتوغّلْ إلى الحاجات الاقتصادية للفئات الفقيرة في مناطقه وهم غالبية.

أما الرئيس الحريري فأنجز السوليدير مُحسّناً مطار بيروت للزوم السياح.. متمكناً بدعمه المالي المباشر من الإمساك بمعظم الروابط العائلية في المدن السنية الكبرى كما أدّى الإعلام دوره في بناء تحشيد مذهبي عند طائفة لم تلعب هذا الدور تاريخياً لإحساسها بأنّها «أهل الجماعة». هذا من دون نسيان نحو ستين مليار دولار، كان الرئيس الحريري يقول إنّ بإمكان لبنان أنّ يدفعها بعد مرحلة «السلام».

اليوم.. أصبح الوضع مختلفاً.. خصوصاً بعد تمكّن حزب الله من تسجيل انتصارات متتابعة منذ هزيمته «إسرائيل» في 2000 و2006، وسحقه الإرهاب في سورية وعرسال في 2017.. لقد أدّت هذه الانتصارات إلى زعزعة الحريرية السياسية كتيار سياسي وليس كمذهب ديني. فوجدتْ نفسها مضطرة إلى تأييد العماد عون في رئاسة الجمهورية، وذلك بعد رفض طويل مع حليفها القوات اللبنانية.

ما يمكن ملاحظته هنا أنّ انتخاب عون فتح السجال المعقّد حول العلاقة بين دستور الطائف والميثاق الوطني. فإذا كان الدستور يمنح إدارة البلاد «لمجلس الوزراء مجتمعاً»، فإن الميثاق يهب المذاهب عبر قياداتها، حقوقاً عرفية تعطّل الأولى، وهي أعراف تصبح لها قوة الدستور مع تكرار استعمالها.. كحصة رئاسة الجمهورية الوزارية مثلاً التي تُضاف إلى حصة حزبه في الحكومة، فيصبح الأقوى طبيعياً وحق الشيعة في وزارة المال.

هناك أيضاً مسألة تشكيل الحكومة.. هل هي حكرٌ على الرئيس المكلّف، أم بالاشتراك مع رئيس الجمهورية. لذلك يقضي العرف عدم جواز إعلانها إلا بعد موافقة رئيس الجمهورية.. أما إذا تمنّع الرئيس فلا يجوز إعلانها لتعارضها مع مبادئ الميثاق العرفي. الطريف أنّ هذه الأمور لم تكن مطروحة في الراحل الهراوي، لحود وسليمان وذلك لانسجام قيادات تلك المرحلة في الولاءات السياسية الإقليمية، معظمهم كان سوري الهوى، باستثناء سليمان الذي بدأ مثلهم قبل أنّ يفتح خطوطاً واسعة نحو الرياض وواشنطن، و»إعلان بعبدا».

هذه الوضع المربك، دفع بالرئيس المكلف إلى الاحتفاء بأسلافه في الحكومة. فدعا على عجل إلى اجتماع طارئ ضمّ إليه السنيورة وميقاتي وسلام. وخرجوا مطالبين باحترام دستور الطائف. ما يعني أنّ هناك مَن يخرقه.. وهو بالطبع الرئيس ميشال عون.

ما يمكن استنتاجه أنّ تشكيل الحكومة يخفي صراعاً حاداً بين الدستور والميثاقية. وللتوضيح أكثر فإن الرئيس عون يحاول استرجاع جزء من صلاحيات رئاسة الجمهورية كان «الطائف» بخلفية سعودية ـ حريرية، انتزعه منه لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعاً. وبما أنّ الحريرية السياسية هيمنت على القوى السياسية المذهبية بتعدّد ولاءاتها وسياساتها، فنجحت بالإمساك بكامل الصلاحيات الدستورية والعرقية، وحوّلت رؤساء الجمهورية السابقين وخصوصاً سليمان، إلى مسؤولين يشبهون ملكة بريطانيا التي «تملك ولا تحكم».. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ رفيق الحريري هو الذي كان يحكم ولا يملك كحكومة الإنكليز.. المشكلة إذاً هي في محاولة الرئيس عون إعادة الصلاحيات إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، مقابل إصرار الحريري على إبقائها في عهدة حريريته السياسية، ملوّحاً بإمكان التصعيد المذهبي بأسلوب التحشيد وتصوير محاولات عون ـ باسيل وكأنّها تستهدف الطائفة السنية. علماً أنّ الجميع يعرف أنّ مالك السوليدير والقصور والأملاك هو الحريري حصراً.. بيروت، طرابلس.. صيدا، البقاع الغربي، عكار.. وإقليم الخروب.. هذه مدن يعرف أهلها أنّ الحريرية السياسية لم تقدّمْ لهم شيئاً على مستوى الإنماء.. ومجمل ما فعلته، كان تنظيم عمليات تحريض مذهبية وطائفية مع تحشيد كبير لا يزال يستهدف سورية وإيران حتى الآن.. وهذا واضح في أسلوب جمع رؤساء الحكومات السابقين لتأمين تحشيد مذهبي كبير مع استخدام السياسات الخليجية في التأثير على الدولة اللبنانية على مستوى المسؤولين فيها، وصولاً إلى الزواريب المذهبية والطائفية. وإلا كيف يمكن فهم جولات سفيري السعودية والإمارات على خلوات البياضة ومساجد بعلبك وحاصبيا وكنائس المسيحيين، واستدعاء زعماء لبنانيين إلى الرياض وحثهم على تشكيل 14 آذار جديدة لمقاومة عون وحزب الله في آن معاً..؟

وهذه الممارسات لا يمكن أنّ تتم إلا بتغطية أميركية لا تزال الحريرية تحظى بها. لذلك يجب الإقرار بأن تعثر التشكيل له «حلفيتان: إقليمية تريد حكومة بغالبية للحريرية وحلفائها، وداخلية تعكس صراعاً حاداً بين حريرية سياسية تحاول المحافظة على إدارتها الكليّة للبلاد بشكل دكتاتوري كامل، وبين التيار الوطني الحر الذي يريد استعادة الدور المسيحي في هذه الإدارة.. هذا الدور الذي احتواه المرحوم الرئيس رفيق الحريري بإمكاناته الإقليمية والدولية والاقتصادية ولا يمكن الاستهانة هنا بإصرار حزب الله بدوره على إدارة دور حكومي سياسي كبير في لبنان..

فهذا يُرعب الحريرية السياسية ويدفعُها للتشدّد في مسألة التشكيل، والتمسك بغالبية وازنة تحميها من «غدرات الزمان». هذا ما يشجع على الاعتقاد بأن الحريرية التي كانت تفضّل التحرّك السري مذهبياً عبر وسائل وجمعيات وتنظيمات متطرفة، قد تجد نفسها اليوم مرغمة على قيادة تحشيد مذهبي ظاهر.. لحماية امتيازاتها.. وهي امتيازات بدأت أصلاً بالتراجع انطلاقاً من السعودية بلد المصدر، الذي لم يعُد منهلاً مالياً كبيراً للإقناع السياسي والطائفي كذي قبل. إنّ فكفكة إمكانات الحريرية من هيمنتها على الصناديق والأجهزة الأمنية والوزارات التابعة والمؤسسات الكبرى تحتاج إلى وقت، لأنها وليدة عقدين من الهيمنة على إدارة الدولة. تكفي الإشارة إلى هيمنتها على الداخلية وقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات.. لإظهار مدى إمساكها بجزء هام من الدولة.

هذا يثبت أنّ الصراع على التشكيل ليس إلا جزءاً بسيطاً من أوجه الصراع الثنائي أو.. الثلاثي على إدارة البلاد.. وقد تجد هذه الأطراف ضرورة لتسهيل التشكيل الحكومي على قاعدة «ربط النزاع» إلى مراحل أخرى، وذلك بسبب سوء الأوضاع في الإقليم.. لكن هذا «الصراع الثلاثي» هو من الآليات الأساسية الثابتة في عهدة عون والتي من شأنها إعادة تركيب السلطة على نحو متوازن يقلّص امتيازات الحريرية السياسية نحو توازن مسيحي ـ إسلامي، يحترم أولاً الدستور والميثاق في آن ويؤسس في مراحل لاحقة لعصر لبنان الوطن على أساس غير طائفي ولا يعتبر الإقليم ولياً على أمور لبنان.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/07/02

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد