آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

صراعٌ محموم على تركيا بين الروس والأميركيين...


د. وفيق إبراهيم

يندلع تنافسٌ حاد على جذب تركيا بين الأميركيين والروس فكل طرف منهما يعتقد أن استمالتها إليه تُعجلُ بواحد من أمرين: أما المحافظة على نظام القطب الواحد بالنسبة لواشنطن أو إسقاطه كما تريد موسكو.

المعروف أن تركيا عضو في الحلف الأطلسي «الناتو» منذ تأسيسه وكانت تُمثلُ بالنسبة إليه «السد» الذي يمنع الاتحاد السوفياتي من التوسع «براحة» في الشرق الأوسط من بوابات تركيا البحرية التي تربط البحر الأسود بالبحر المتوسط عبر «مرمرة» و»ايجة». صحيح أنها بحار مفتوحة للجميع لكن رعاتها هم الترك الذين يواصلون مراقبة العابرين بدقة متناهية، لكونهم يجسدون المصالح الأميركية في العالم ويأخذون بالمقابل اهتماماً أميركياً مرتبطاً بقواعد عسكرية متعددة بعضها يحتوي على أسلحة نووية «انجيرليك وغيرها»، لكن انفجار الأزمة السورية فرق بين الأحباب لاختلاف مصالحهم، واشنطن راعية الأزمة كانت تريد في بداياتها إسقاط النظام السياسي على قاعدة الاحتفاظ بوحدة جغرافيته السياسية ولما تعذر ذلك لجأت إلى لعبة تفتيته بالاعتماد على الإرهاب و»إسرائيل» والسعودية وقطر وسورية وتركيا.

وخسرت للمرة الثانية رهاناتها، بالمقابل أرادت أنقرة تسهيل تشكيل كونفدرالية للإخوان المسلمين على مستوى مصر والعراق وسورية وليبيا وتونس ولعلها كانت تفكر أيضاً، بضم بلدان الخليج بتطبيق نظرية السقوط المتتابع للبيادق كان الأميركيون أول المجابهين لمشروعها مستفيدين من تحرك الشعب المصري في وجه «الإخوان» فحرّكوا السيسي بقيادة الجيش المصري والقضاء عليهم ناجحين بفرض تراجع أدوارهم في المنطقة عموماً على حساب طموح تركيا التي عاودت التدخل بذريعة محاربة الإرهاب.

لقد أسدى الأميركيون خدمة للترك ولسياساتهم الخاصة بتنشيطهم مشروعاً كردياً «قسد» في شرق سورية يحاولون بواسطته وقف تراجعاتهم في الشرق الأوسط.

فالكرد ثائرون في تركيا والعراق ومشروعٌ خطر في سورية وتركيا لكنه كان نائماً.

واستفادت أنقرة من الخطر الكردي عليها باجتياحها قسماً من أراضي سورية والعراق وتمكنها بذلك من أداء أدوار سياسية «استعمارية» في البلدين بموافقة أميركية ملتبسة، لأن مثل هذه الأدوار تُعقد الأوضاع في مناطق الاجتياحات التركية ولا تسيء للمشروع الكردي لأنه متمتع بحمايتها.

لجهة روسيا فتعرف أهمية تركيا على الرغم من ان تَحسُن علاقاتها بإيران فتح لها الأبواب من ناحية بحر قزوين طهران العراق سورية، لكن لا يمكن اعتباره بديلاً من الخط التركي البحري لتضمنه مناطق في العراق لا تزال أميركية بشكل كامل.

لذلك تعاملت موسكو مع التقدم التركي في شمال سورية ومناطقها الغربية ببرودة لافتة حتى الآن، ونجحت بذلك في تشكيل مثلث قوة روسية تركية إيرانية للتنسيق في الميدان السوري في إطار حلف يجتمع دورياً تحت مسمى آستانة وسوتشي ويتخذ مقررات موحّدة من كل الظواهر المتعلقة بالأزمة السورية بنيوياً ودائرياً.

ولم يكتفِ العقل الروسي بهذا الإبداع بل ذهب نحو عقد اتفاق ضخم مع أنقرة كنقل الغاز الروسي عبر أراضيها نحو البحر الأسود إلى الأراضي التركية تمهيداً لإعادة تصديره إلى أوروبا بمعدل 30 مليار متر مكعب نصفها للداخل التركي والباقي للقارة العجوز «أوروبا».

إن مثل هذا الاتفاق الذي قد يستمر نصف قرن تقريباً من شأنه تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين تمهيداً لتحالفات سياسية مترافقة وواعدة.

تكفي الإشارة إلى أن عدد السياح الروس الذين يجولون سنوياً في بقاع تركيا يزيد عن خمسة ملايين نسمة.

ينحصر إذاً التنافس الأميركي الروسي في استعداد واشنطن لغض الطرف عن استمرار الدور التركي في شمال سورية وشمال العراق إنما من دون الاصطدام بالمشروعين الكرديين فيهما، أما موضوع القواعد الأميركية في تركيا فلم تعد بالنسبة لأنقرة مفيدة لأن التهديد السوفياتي لم يعد موجوداً والايديولوجيا الشيوعية الاشتراكية لم تعد مصدر جذب لأي من الأحزاب التركية، هذا ما يجعل من هذه القواعد مهمة للطرف الأميركي فقط، وثقيلة على الترك.

هناك نقاط إضافية حول احتمال أن يكون ممثلو البيت الأبيض نقلوا إلى أردوغان تأكيداً على عدم شمول المشروع الكردي تركيا. وهم بالتالي مستعدون لدفع مشروع «قسد» الكردي بعيداً من شمال سورية ونحو جنوبها وجنوبها الشرقي بمعنى أن هذا المشروع «قسد» هو لحماية المصالح الأميركية في العراق عبر إدارة لعبة التوازنات بين مكوّناته المذهبية والعرقية، وهو أيضاً للاستعمال المرتقب في الجزء الكردي من إيران عبر كردستان العراق.

من جهتها تركيا ليست بلداً جديد التكوين ليستميلها الأميركيون بثرثرات لا طائل منها، فهم متأكدون أن نجاح المشروع الكردي في شرق سورية وكردستان العراق كفيل بتفجير تركيا إلى ثلاثة مكوّنات منفصلة تماماً الكردي والتركي والعلوي لذلك يُصرّون دائماً على رأس المشروع الكردي مقابل عودتهم إلى العباءة الأميركية مع أدوار نافذة في سورية والعراق.

من ناحيتها موسكو فبالإضافة إلى السيل التركي للغاز الروسي الطبيعي الضخم والسياح والأدوار السياسية العقلانية التي يسمح بها الروس للترك في سورية يبدو أن بوتين مستعد للذهاب بعيداً في علاقاته مع تركيا لأن أهميتها بالنسبة إلى مشروعه في اختراق نظام القطب الواحد أكثر من استراتيجية وتكاد تنضوي في إطار الجيوبوليتيك الروسي المرتقب.

لكن مثل هذا الاهتمام لا يصل إلى حدود سماح روسيا لأنقرة بتعطيل استكمال سورية لسيادتها، فإذا كانت أنقرة جزءاً من طريق الصعود الروسي فإن دمشق هي قلبه ومنصته للقفز إلى الفضاءات السوفياتية السابقة ومحطته البحرية الآمنة والوحيدة في البحر الأبيض المتوسط.

هذا ما يدفع «الكرملين» إلى البحث عن حل يقنع أنقرة بأهمية الدولة السورية ويلبي جزءاً من طموحاتها الاقتصادية والقليل من شبقها العثماني التوسعي.

أما الأميركيون فيعجزون عن التخلي عن المشروع الكردي لأنه يشكل بالنسبة إليهم سداً يمنع الروس من التقدم عبر سورية لتحقيق نظام تعدد الأقطاب.

وهذا يعني استمرار التنافس بين القطبين المترقبين لوسائل جديدة تغري أنقرة فتميل إلى من يمتلك إغراءات أكثر.

ويبدو أن معركة إدلب المرتقبة قد تسهم في اندفاعة تركيا نحو الروس القطب الذي يمكن التعويل عليه في السنوات القليلة المقبلة لاختراق الأحادية الأميركية.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2018/11/20

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد