آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. وفيق إبراهيم
عن الكاتب :
باحث استراتيجي متخصص في شؤون الشرق الأوسط

هل تنتشر الشرطة الروسية في المنطقة الحدودية الآمنة؟

 

د. وفيق إبراهيم

ينظمُ الروس حركتهم في سورية بوسائل شتى يبدو أنّ آخرها هي الأعمال العسكرية الحاسمة، هذا ما تفعله في العادة الدول المركبة عندما تتعامل مع ميدان شديد التعقيد تتصارع فيه قوى أميركية وفرنسية وتركية وإيرانية وروسية مع أدوار خليجية تمويلية وعسكرية وإرهاب عالمي الانتماء والنشأة وجيش سوري يجاهد للمحافظة على الوحدة السياسية لبلاده وتثبيت سيادتها.لذلك بدا واضحاً لموسكو أنّ تحالفها مع إيران بقيادة الدولة السورية أمّن عسكرياً ثلاثة أرباع سورية منظماً علاقات غير احترابية مع تركيا لم تلغِ مطامعها بشكل كامل، لكنها استفادت من محاولة أميركية انقلابية على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 2016 فعقدت معه اتفاقاً مبدئياً يؤمن خوف الأتراك من المشروع الكردي المتدحرج والتآمر الأميركي عليهم مع الاستعداد النسبي لتقبّل بعض الأدوار التركية في أزمة سورية، انطلاقاً من كونها صاحبة أكبر حدود معها أكثر من 900 كلم ، ولها علاقات بأطراف سورية كثيرة من الاخوان المسلمين وتركمان سورية وبعض المنظمات الإرهابية في داعش والنصرة والمنظمة الوطنية للتحرير وجيش الاسلام ومعارضات تثير «القهقهة».

استغلّ الروس إذاً التعارض الأميركي التركي في الأزمة السورية وحوّلوه تناقضاً عميقاً مربوطاً بتطور مصالح اقتصادية بين موسكو وأنقرة يصل إلى أكثر من مئة مليار دولار سنوياً مع تقاسم السيطرة الجيوبوليتيكية على البحر الأسود الذي أصبح حالياً بحراً روسياً تركياً كاملاً لا دور فيه للأساطيل الأميركية والأوروبية إلا نسبياً.هذا لا يعني أنّ تركيا تخلت عن أطلسيتها، لكنها لم تتخلَ عن عثمانيتها أيضاً، فتحاول الاستفادة من كلّ أطراف الأزمة السورية بنفسٍ براغماتي قلّ نظيره، فهي عثمانية تارة، وإسلامية تارة أخرى وبراغماتية حيناً وأوروبية الهوى حيناً آخر، وتراها تركز على إيمانها بالمدى الإنساني الأممي في مرات متعدّدة، فلا تتورّع عن إسداء النصائح إلى الدول المجاورة بالتقاطع مع دعمها لحركات إرهابية لا تؤمن إلا بالذبح والنحر وتحويل النساء سبايا والاطفال قنابل متفجرة.

هذه هي تركيا التي أمسك بها الرئيس الروسي بوتين من خلال صراعها مع الأميركيين معاوداً احتضانها حتى «الهصر» بعد إعلان الرئيس الأميركي ترامب عن قرار بلاده بالانسحاب من سورية «بلاد الرمل والموت» حسب وصفه. فهمت موسكو أنّ مشروع الانسحاب ليس بريئاً وقد لا يُصبح انسحاباً فعلياً لأنه يرمي إلى تفجير العلاقات الروسية التركية الحديثة والتمديد للأزمة السورية وجعل شرق سورية وشمالها ميادين لاقتتال تركي سوري روسي، فتعود أنقرة إلى حضن الأطلسي وقد تتمتع برعاية أميركية أطلسية كاملة تقيها التفوّق الروسي الإيراني الذي يطوّقها بحراً روسيا وبراً إيران.

لذلك استوعبت موسكو أهداف الإعلان الأميركي بالانسحاب المشبوه فنظمت حركتين متوازيتين: اتصالات بالكرد في شرق الفرات الناقمين على الانسحاب الأميركي، ومفاوضات سريعة مع الأتراك.لكنها لم تكن حركات سريعة، لأنّ موسكو تعرف أنّ الانسحاب الأميركي مشروع يريد تأمين آليات جديدة لتجديد القتال في الميدان السوري وهذا يحتاج وقتاً طويلاً وقد لا ينجح فيبقى الأميركيون عندها في شرق الفرات وقتاً أطول.

الملاحظ هنا أنّ موسكو نجحت نسبياً في استمالة الكرد نحو دمشق في مفاوضات بدأت سرية وتصبح علنية خلال اليومين المقبلين، فهناك تفاصيل دقيقة حول المدى السوري المسموح للإدارة الكردية الذاتية وطريقة توزيع الموارد وإدارة الحدود والمراكز الرسمية والتعامل مع الجيش السوري والمؤسسات.بالنسبة لتركيا فإنها تحاول توريط ترامب بتلفيقات وعد بها حول قبوله بانتشارها في منطقة حدودية سورية آمنة بعمق 30 كيلومتراً من جرابلس إلى المالكية عند الحدود مع العراق وشرقاً.وتبيّن أنّ ترامب يتعامل مع أردوغان بعقلية السمسار الذي يطلق وعوداً غير قابلة للتحقيق بهدف كسب موافقة الطرف الآخر وبيعه لاحقاً عند أول مفترق، لماذا يفعل ذلك؟ ليؤسّس لتفجير لقاء أستانا الروسي التركي الإيراني على قاعدة أنّ طهران وموسكو لن تقبلا بالاقتراح الأميركي حول المنطقة الآمنة، فتزعم واشنطن في هذه الحالة أنها الصديقة الوحيدة لتركيا ومصالحها.

وهذا ما أجهضته موسكو، ففي اللقاء الأخير الذي جمع بوتين بأردوغان بدأته روسيا بإعلان تفهّمها للقلق التركي من المشروع الكردي من جهة والإرهاب من جهة أخرى، وببراعة أعادت المفاوضات إلى اتفاق أضنة المعقود في 1998 بين دمشق وأنقرة، على أساس أنه يحق لتركيا في حالة عجز الدولة السورية عن حماية حدودها من الأكراد الدخول بعمق خمسة كيلومترات في الأرض الحدودية لدمشق.لكن الروس قالوا لأردوغان إنّ الإرهاب هذه المرة تسلل من مناطق تركيا الحدودية إلى سورية ما يجعل من حقوق سورية المطالبة بمنطقة حدودية بعمق 5 كيلومترات داخل تركيا.

وتقدّم الروس بعرض دقيق يقوم على ضرب الإرهاب في إدلب وعفرين مقابل منطقة آمنة بعمق 5 كيلومترات على طول الحدود ترعاها الشرطة العسكرية الروسية بمشاركة نسبية من جنود أتراك إنما تحت الرعاية الروسية الكاملة.أما لجهة شرق الفرات، فهذه مسألة لا علاقة للأتراك بها لأنها مسألة داخلية بين مكون سوري كردي ودولته السورية على أساس لا يسمح للكرد بتنظيم عمليات عسكرية عبر حدود تركيا، بالإضافة إلى قبول دمشق بضبط المشروع الكردي وإجهاض امتداداته السياسية نحو أكراد تركيا.

وبذلك بدا واضحاً أنّ اهتمامات روسيا تتدحرج بسرعة نحو ضرورة تشكيل اللجنة الدستورية أيّ الهيئة الوحيدة التي تسمح بوضع حلّ دستوري للازمة السورية، وذلك بإنتاجٍ قانوني للمؤسسات السورية السياسية بعد أزمة بدأت في 2011 وأدّت إلى تحوّل الميدان السوري طاحونة أمم.لكن بسالة الجيش السوري أسقطت مع الحلفاء كلّ هذه المشاريع ببسالة تاريخية نادرة أسقطت مشاريع عودة الاستعمار الجديد إلى بلاد الشام والعراق.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2019/01/26