آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي محمد فخرو
عن الكاتب :
مفكر بحريني

مسؤولية الإعلام العربي في التنمية الإنسانية المستدامة


علي محمد فخرو


كل محاولة تقييمية لحقل الإعلام تواجه إشكاليات متداخلة ومتناقضة، وفي كثير من الأحيان مبهمة، ما يجعل التقييم الموضوعي، المتناغم مع الحاجات الوطنية والقومية شبه مستحيل. وفي الواقع لا يوجد حقل تتواجد فيه الفوائد الكثيرة مع المساوئ المناقضة الكثيرة مثل حقل الإعلام.

ولأن فيه ما فيه من أحجيات تثير الكثير من التساؤلات، ولأن نشاطاته تغطي مساحات شاسعة من اهتمامات البشر الحياتية، أصبح الإعلام أحد أهم مصادر التساؤلات والمخاوف والمخاطر والشكوك التي يطرحها هذا العصر الذي نعيشه، خصوصا بعد انتقاله من كونه إعلاما وطنيا محدودا، إلى كونه إعلاما فضائيا منتشرا عولميا، وخصوصا بعد أن أوجد هذا الإعلام فوضى وضبابية في القيم والأذواق، والتعابير والكلمات والمشاعر الدينية، والالتزامات المجتمعية والإنسانية.

نحن هنا معنيون بالطبع بالإعلام العربي وتأثيرات الإعلام العولمي على الإنسان العربي. ذلك أن قسما كبيرا من وسائل الإعلام العربي وصلت إلى مراحل الخطايا في تأييدها المطلق لممارسات وممارسي الاستبداد والبطش والقمع المتوحش، والسجن بلا محاكمات، والتعذيب الممنهج في غرف الاعتقالات، والطرد من الوظائف، وذلك كله باسم المحافظة على السلم الأهلي والأمن المجتمعي. ونسمع ونقرأ يوميا قصائد المديح المبالغ فيه، وإضفاء الصفات المتوهمة، على كل مغامر جاهل أو مريض أو مثير للشفقة، يمارس بشتى الطرق ويقنن بشتى المبررات ما يتعارض مع الحقوق الإنسانية والمبادئ الديمقراطية، والتنمية الاقتصادية الإنسانية العادلة، والاستقلال الحقيقي الوطني والقومي، والوقوف في وجه المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي.

الإعلام أحد أهم مصادر التساؤلات والمخاوف والمخاطر والشكوك التي يطرحها العصر الذي نعيشه

في عرف الكثير من الإعلام العربي، أصبحت مطالب الحرية الضرورية لكرامة الإنسان مماثلة لأحداث الفوضى في المجتمع، ومطالب العدالة في توزيع الثروة معوقات لجذب الاستثمارات الخارجية والداخلية. وبقدرة قادر انقلب الصراع الصهيوني ـ العربي الوجودي إلى كونه خلافا إسرائيليا ـ فلسطينيا. وحسبما تشتهيه بعض الدوائر الخارجية، وبعض القوى الداخلية المستحوذة على الثروات والامتيازات، تٌقدَم الشعارات القومية الجامعة، حتى في حدها الأدنى من التكامل والتعاضد السياسي والاقتصادي والأمني، على أنها نوع من الرومانسية الطفولية التي عفى عليها الزمن في عالمنا العولمي، التي آن أوان الخروج من أوهامها.

لقد وصل الاستهتار بمشاعر الكثرة الساحقة من المواطنين، وبالحد الأدنى من التعاطف مع الإخوة الفلسطينيين، استضافة الكثير من وسائل الإعلام العربي لشخصيات صهيونية ومتحدثين رسميين من فلسطين المحتلة وخارجها، لعرض وجهات النظر الصهيونية، والدفاع عن ممارساتها الإجرامية، وذلك باسم الموضوعية في تقديم الأخبار والحوارات، على الرغم من أن القائمين على وسائل الإعلام تلك يعرفون أن ما تقوله تلك الشخصيات مغطاة بألف قناع من الكذب والتزييف والمبررات المظهرية.

مقابل تلك «الموضوعية» المدعاة، يحدث العكس بالنسبة لمناقشات الخلافات العربية، إذ أن تشجيع حوارات السب والشتم والشماته والاستهزاء حتى بالشعوب الشقيقة، أدى إلى إثارة النعرات القطرية، ومشاعر الكراهية، على حساب مشاعر الأخوة العروبية وتغليب المصالح القومية المشتركة. وحتى عندما تناقش قضايا الثنائية الفكرية المختلف حولها، مثل العلمانية/الدينية، أو الأصالة/المعاصرة، يجري التركيز على نقاط التوتر والاستقطاب، بدلا من التركيز على إجراء حوارات موضوعية متزنة مقرِّبة تساعد بناء ثقافة عقلانية هادئة ومتسامحة. ويبلغ اللعب بمشاعر الناس وإثارة العواطف البدائية مداهما في النقاشات الدينية، خصوصا على القنوات الدينية المستعملة للدين، كتغطية لأجندات سياسية انتهازية بحتة. هنا يدخل الكذب على التاريخ، وتصاغ القصص الأسطورية، وترتفع أصوات المدح أو الشتم المبالغ في كليهما. هنا لا يجرى حوار، بل تُلقى الخطب وتُستفرغ كتابات وأقوال الماضي السحيق من دون تأكد ومن دون تمحيص.

والنتيجة أنه بدلا من أن يلعب الإعلام العربي دورا مهما ومؤثرا في بناء نهضة ثقافية تجديدية فانه يفعل العكس، إذ يبقي الماضي، بمشاكله وأوهامه الكثيرة، حيا ومؤثرا ومهيمنا على الحاضر. ولعل ندرة القنوات الإعلامية العربية الثقافية تقدم دليلا آخر على ضعف الاهتمام بالثقافة الرفيعة المستوى، فكرا وفنونا وآدابا وعلوما،
بل لعل الإمعان في استعمال اللهجات المحكية المحلية، بدلا من اللغة العربية الفصحى، وبالتالي تهميش أهم مكون من مكونات الثقافة العربية المشتركة الموحدة، هو دليل آخر على احتقار حقل الثقافة من قبل الكثيرين.

إذا اضفنا كل ذلك إلى انتشار المادة الرديئة في الغناء والرقص والتمثيليات والمسلسلات، التي يزخر بها الإعلام العربي، والانغماس في تبني الثقافة العولمية المادية الاستهلاكية المسطحة، ندرك مقدار تقصير الإعلام العربي في المساهمة الجادة العميقة الفاعلة الضرورية في بناء مجموع مكونات التنمية الإنسانية العربية، التي بدونها لن تخرج هذه الأمة من تخلفها التاريخي إلى رحاب حداثة ذاتية وعصر عربي جديد.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/03/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد