آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
طلال سلمان
عن الكاتب :
طلال سلمان (مواليد 1938) هو صحافي لبناني كبير مؤسس جريدة السفير اللبنانية اليومية. شكل منذ عقود مرجعية إعلامية في الشؤون العربية واللبنانية تحظى بالتقدير، وبالتأثير في الرأي العام.

من الجزائر إلى السودان و… الثورة كطريق إلى المستقبل

 

طلال سلمان

أحيت الانتفاضات الشعبية الحاشدة، ضد النظام القائم في الجزائر ثم في السودان آمالا عريضة عاش بها وعليها جيلان من ابناء هذه الأمة الولادة في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل أن يلتهمها اليأس أو العجز عن انجاز التغيير المنشود.

كانت شعارات الوحدة والتحرير وانهاء مخلفات حقبة الاستعمار تملأ الافق، وهتافات الشباب في شوارع العواصم العربية تستولد وتزخم الامل بالتغيير، وتؤكد القدرة على صنع الغد الافضل والانتصار على قوى الاستعمار والرجعية وأعداء الشعوب من أجل الحق في استعادة القرار الوطني وبناء المستقبل بالإرادة الوطنية والأحلام القومية العريضة.

في البداية كانت ثورة يوليو (تموز) العام 1952 في مصر تأكيدا للقدرة على التغيير الثوري، وهي التي تكاملت بالقرار التاريخي الذي اتخذه جمال عبد الناصر، في الذكرى الرابعة للثورة معلنا فيه تأميم قناة السويس..

ولقد تعززت هذه الثورة بانفجار الغضب في الجزائر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي استطال لأكثر من مائة وخمسين سنة، فارضاً على الجزائريين هويته (من الدرجة الثانية) ولغته الفرنسية، ملغيا وجودهم وارادتهم في أن يكونوا “هم”. وكان طبيعياً أن تقف مصر الثورة إلى جانب الشعب الجزائري في ثورته من أجل استعادة هويته وبلاده لتكون له حقيقة.

بالمقابل، كانت دولة العدو الإسرائيلي قد وطدت اركانها بفضل الدعم الخارجي الذي تلقته، بوصفها تحقيقا لمشروع صهيوني لاستعادة “أرض الميعاد” يتكامل مع النزعة الغربية للسيطرة على المنطقة العربية، ذات الأهمية الاستراتيجية الفائقة، وذات الثروات الهائلة في صحاريها وبحارها، النفط والغاز.
…وهكذا تحالفت قوى الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا) مع الاستعمار الاستيطاني الجديد (إسرائيل، محتلة فلسطين ومهددة الامن القومي في الوطن العربي بأكمله..) فكان العدوان الثلاثي على مصر التي شاركت فيه الدول الثلاث، ولم تعترض عليه الولايات المتحدة الأميركية، واعترض عليه الاتحاد السوفياتي الذي ستتوثق علاقاته بعدئذ بمصر عبد الناصر، فضلاً عن سوريا..

ما بعد 1956 تاريخ عربي جديد، بين محطاته الكبرى قيام أول. دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث نتيجة اندماج مصر وسوريا في “الجمهورية العربية المتحدة” بقيادة جمال عبد الناصر في 22 شباط / فبراير 1958) وهي لم تعمر ـ مع الأسف ـ إلا ثلاث سنوات ونصف، فانهارت في 28 ايلول / سبتمبر العام 1961.

كانت مصر عبد الناصر بمثابة المعين والداعم لثورة الجزائر التي حققت انتصارها التاريخي، في أيلول (سبتمبر 1962).. فاستعادت هويتها العربية معززة الموقف العربي والطموح إلى بناء المستقبل الافضل، لا سيما وقد رأى فيها قادة التيار القومي رداً على انتكاس دولة الوحدة، كما على العدوان الثلاثي وإعادة الاعتبار لوحدة الأمة العربية وحقها في الغد الافضل.

هذه النبذة التاريخية الموجزة عن جزائر الثورة، “وجبهة الصمود والتصدي”، التي لم تنجح في تعويض غياب مصر بعد اتفاق كمب ديفيد الذي ذهب اليه الرئيس المصري أنور السادات لإبرام “معاهدة صلح” مع العدو الاسرائيلي برعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر في 17 ايلول / سبتمبر العام 1978.

وهكذا تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية التي حاولت قيادتها ممثلة بياسر عرفات اعادتها إلى دائرة الضوء بإعلان “الدولة الفلسطينية” ومحاولة الحصول على اعتراف الدول ـ عربية واجنبية بها، لكن ذلك لم يعوض وهج القضية المقدسة، وانتهى به إلى التسليم باتفاق اوسلو مع العدو الإسرائيلي، والذهاب من بعد إلى واشنطن لتوقيع “السلام” مع رئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين في 13 ايلول /سبتمبر العام 1993 في البيت الابيض وبرعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن إسرائيل كانت قد اجتاحت لبنان في صيف 1982 واحتلت جنوبه وبعض بقاعه وصولاً إلى العاصمة بيروت، حيث كانت تقيم قيادة منظمة التحرير بفصائلها المقاتلة، على اختلافها بقيادة ياسر عرفات.. ثم كان أن تدخلت الإدارة الأميركية عبر موفدها الخاص فيليب حبيب لعقد اتفاق اخرجت بها المنظمة وقيادتها من لبنان إلى تونس، بينما تم توزيع مقاتليها على عدد من الدول العربية التي قبلت “باستضافتها”..

وبعد الاتفاق بين القيادة الإسرائيلية والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في واشنطن برعاية بيل كلينتون، سمحت تل ابيب بعودة مجموعات من هؤلاء المقاتلين الذين كانوا قد باتوا كهولاً إلى انحاء محددة، وتمت رقابة مشددة، إلى بعض المناطق في الضفة الغربية، في ظلال إعلان قيام “دولة فلسطين”… وهذه مبالغة بل خديعة لفظية لان فلسطين ما تزال تحت الاحتلال، و”السلطة الفلسطينية” رهينة لا يستطيع رئيسها أن يتحرك من دون اذن إسرائيلي مسبق..

…وأما السودان والثورة التي تتفجر الآن فيه مجدداً، فإن بلاد الخير ذات تاريخ مضيء في النضال من أجل الحرية. إذ كانت خلال الستينات والسبعينات سنداً لمصر، ولحركة التحرر العربي عموما، خصوصاً وأن فيها حركة سياسية ناشطة، لعل بين أبرز عناوينها “حزب الأمة” بقيادة الزعامة التاريخية لآل المهدي، والحزب الشيوعي السوداني، وهو أحد ألرز وأعرق الاحزاب الشيوعية في الوطن العربي، وكان لزعيمه الراحل عبد الخالق محجوب علاقة مميزة مع الرئيس جمال عبد الناصر.. وكان الحزب الشيوعي ومعه الاتحاد العام للنقابات العمالية بقيادة الراحل الشفيع أحمد الشيخ دور مؤثر في الحياة العامة في السودان.

على أن عدوى الانقلاب العسكري قد ضربت هذا البلد ذا النيلين (الأبيض والأزرق) والشاسع بمساحته، والمفتوح أمام التدخلات العربية والخارجية.. وهكذا توالت فيه الانقلابات العسكرية حتى استقرت، مؤخراً فيه، ولمدة 30 سنة متصلة، بين يدي المشير عمر البشير الذي اتقن اللعب على الحبال، بين مصر والسعودية ومعها دول الخليج، وبين الروس والاميركيين، وصولاً إلى الصين. وكان ملفتا أن يقوم قبل شهرين تقريباً بزيارة مفاجئة لسوريا التي “تقاطعها” معظم الدول العربية، بعد “طردها” من جامعة الدول العربية باقتراح قطري “صدقت” عليه الجامعة العربية.
المهم، أن الشعب السوداني مقيم منذ اسبوعين في شوارع الخرطوم والخرطوم البحري، يطالب بإسقاط النظام، لا يغادر المعتصمون الشارع ليلاً ونهاراً.. وقد نجح هذا الحراك السلمي الممتاز في “اقناع” الجيش بخلع البشير، وتشكيل مجلس رئاسي مؤقت لمدة سنتين، وبالتالي أرجاء تسليم السلطة “للمدنيين”. لكن “الشعب” رفض هذه المخادعة، واستمر في حراكه، يحتل الشوارع بشبابه وصبايه، بأحزابه ونقاباته مطالباً بإنهاء الفترة الانتقالية في أقرب وقت، وتسليم الحكم “للمدنيين”، والدعوة إلى انتخابات عامة تعيد اعتبار الديمقراطية إلى التي عبر عنها الشعب السوداني افضل تعبير طوال مدة اعتصامه وبقائه في الشارع منذ شهر أو يزيد..
وبالتأكيد فإن شعب السودان، صاحب التجربة السياسية العريقة، سينتصر بإرادته الحرة في اعادة بناء الحكم الديمقراطي ومؤسساته التشريعية والتنفيذية، متخطياً “تحايل” العسكر بخلع من تولى إذاعة البلاغ الرقم واحد بضابط آخر، واستمرار التماطل في تسليم السلطة لأهلها، عبر انتخابات نزيهة في أقرب وقت.

هل هي مبالغة أن نفترض أن هذه الأمة تستيقظ الآن بعد موات استطال زمنه حتى نسيت امكاناتها وقدرتها على التغيير، طلباً للغد الأفضل؟

إن شعبين عربيين يقيمان الآن في شوارع الجزائر وقسنطينة ووهران وتيزي اوزو، كما في كامل أرجاء الخرطوم والخرطوم بحري، يطالبان بالتغيير واستعادة حقهما بالقرار في كل ما يتصل بشؤون بلديهما..

..وهما يقدمان تجربة فريدة في بابها التي تجمع بين رافديها في الجزائر والسودان: النزول إلى الشارع، والابتعاد عن العنف وتخريب مؤسسات الدولة، والاصرار على أن يستعيد الشعب حقه في القرار، في ما يتصل بيومه وحاضره.

وأبرز الدلالة على وعي الشعب الذي يملأ الساحات، سواء في الجزائر أو في السودان، انه قد رفض العنف، وحرص على الاستمرار في التظاهر السلمي، ورفض اللجوء إلى القوة في المواجهة، بل أن المتظاهرين كانوا يحملون اجداث الشهداء، ثم يعودون إلى مواقعهم في الشارع..
ثم أن الشعب في الجزائر كما في السودان قد رفض المخادعة التي لجأ اليها الجيش في العاصمتين: فأكد على ضرورة إنهاء الفترة الانتقالية في أسرع وقت وبالتالي انهاء حكم العسكر، عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولو بعد شهور قليلة، تشرف عليها “حكومة محايدة” لتعود الحياة إلى هذين البلدين العربيين اللذين قدما نموذجين مشرفين للعزة والكرامة والحرص على الهوية القومية وعلى الامنية العزيزة على القلوب جميعاً: الديمقراطية.

هل كثير على هذه الأمة أن تأمل باستعادة حقها في السيادة على ارضها والتحرر من قيود الاستعمار قديمه والجديد ( الأميركي ـ الإسرائيلي)؟

أمة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق وترد كيد “العدو”.
هل كثير علينا، كعرب، أن نتنفس وأن نعيش في بلادنا ولها وبها وتاريخها مكتوب بدمائنا..

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2019/04/20

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد