آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. عصام نعمان
عن الكاتب :
محامٍ لبناني منذ 1973 يحمل الإجازة في الحقوق ، شهادة الدكتوراه في القانون العام ، شهادة الماجستير في العلوم السياسية ، وشهادة البكالوريوس في الإدارة العامة أستاذ محاضر في القانون الدستوري ، كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية 1979 – 1989

المخرج من الفوضى الخلاّقة

 

عصام نعمان

نعيش جميعاً في زمن الفوضى الخلاّقة، من شواطىء المتوسط غرباً إلى شواطىء الخليج شرقاً. الفوضى الخلاّقة حالة خطّط لها الأمريكيون وحققها العرب. إنها مشهدية أمريكية – عربية مشتركة. الغريب أن الجمهور المحلي في جميع ساحات العرض لا يملّ من مشاهدتها والمشاركة فيها، لكأنها ملحمة أسطورية عابرة للأزمنة والأمكنة.

قد يبدو التوصيف سريالياً. أجل إنه كذلك من فرط ما هو واقعي. أليس التكرار الممل أحياناً، المشوّق أحياناً أخرى، دليلاً على واقعيةٍ راسخة ومتجددة في آن؟

الممثلون محلّيون في معظمهم. يظهر على مسارح الساحات أحياناً ممثلون أغراب. لكن سرعان ما يختفون تحت وطأة الحضور المحلي الغالب. المُخرج محلي أيضاً. قد يكون درس وتخصّص في الغرب، لكنه غالباً ما يكون متمرساً بثقافة الشرق وبتقاليده العريقة.
ثمة ضرورة ملحّة ومهمة شبه مستحيلة الآن: الخروج من هذه المشهدية المزمنة اللامتناهية. الخروج منها يكون بهمّة مُخرج أو مُخرجين محليين وطنيين وممثلين محليين وطنيين وجمهور وطني أصيل. ثمة حاجة وضرورة ورغبة جامحة لدى الجمهور إلى الخروج من المشهدية المكرورة إلى مشهدية جديدة غير مملّة وغير دموية واكثر متعة وبهاء.
كيف؟
بالجمهور نفسه. ذلك لأن ظاهرة فريدة، غير مسبوقة برزت اخيراً في ساحات عرض المشهدية الخالدة وتعملقت بشكلٍ لا رادَّ له، لكأنما جمهور آخر من كوكب آخر احتل الساحات فجأة. صحيح إنه جمهور متنوّع يضجّ بلهجات وشعارات وصبوات متعددة ومتمايزة، لكن صيحة واحدة في مختلف أوساطه وصفوفه تعلو فوق كل ما عداها: أاخرجوا أيها الممثلون الفاشلون ومعكم المُخرج الشائخ والمنهَك.
ما يريده الجمهور، أساساً، وقف المشهدية المكرورة المملة بإخراج الممثلين الفاشلين والمُخرج المنهَك من ساحة العرض. لعل الوسيلة الفضلى لتحقيق هذه الغاية هي إدامة الصياح والضجيج والضغط لجعل أداء الممثلين مستحيلاً، فيضطرون إلى الإنسحاب بلا ضجة.

حذار من استخدام العنف مع الممثلين أو تخريب بعض مستلزمات الديكور. ذلك لأن للممثلين أهلاً وأنسباء وأصدقاء قد يبادرون إلى الدفاع عنهم فيندلع اشتباك لا جدوى منه. استمرار الجمهور في الاعتراض والاستهجان والصياح والضغط كفيل بحمل المُخرج على وقف العرض.

أجل، المطلوب وقف المشهدية المملة، المكلفة، والمتطاولة التي أرهقت اللبنانيين منذ 47 يوماً. لا يجوز التفكير باستبدال الممثلين الفاشلين بآخرين من الصف الثاني. لا يجوز إجلاء الممثلين الفاشلين عن المسرح وإبقاء المُخرج حاضراً في الكواليس ومنهمكاً في التحضير لفصلٍ مغاير في المشهدية ذاتها. يقتضي أن ينبثق من الجمهور فريق يأخذ على عاتقه تنظيف ساحات العرض من آثار ومخلّفات الممثلين المنسحبين وانتداب بعض أعضاء الفريق لإعادة ترتيب ساحات العرض والتحضير لعملية يُصار بموجبها إلى اختيار مُخرج أو مُخرجين جدد لإعداد مشهدية جديدة تكون بكل عناصرها مغايرة وممتعة وملهمة وكفيلة بعدم اجترار الفوضى الخلاّقة.

الشعب اللبناني في غالبيته يدين أهل السلطة بكل تلاوينهم ويبتغي تنحيتهم ويترتّب على ذلك عدم منطقية أن يتولى أهل النظام الطائفي إخراج البلاد من الأزمة

كيف يمكن ترجمة المعاني المستمدة من رمزية المشهدية المرذولة إلى حقائق وتدابير نابضة وشافية على مسرح الوضع اللبناني النازف؟

لعل الحقيقة الأولى الساطعة المستمدة من الحراك الشعبي المتعاظم وغير المسبوق الذي يلّف البلاد هي أن الشعب اللبناني في غالبيته يدين أهل السلطة بكل تلاوينهم ويبتغي تنحيتهم بما هم إدارة فاشلة لنظام سياسي فاسد ومتهالك.

يترتّب على ذلك عدم منطقية وعدم مشروعية أن يتولى أهل النظام الطائفي الفاسد أنفسهم مهمة إخراج البلاد من أزمةٍ سياسية اقتصادية اجتماعية متعاظمة تسبّبوا بها على مدى عهود عدّة. غير أن ذلك لا يعني، بالضرورة، إسقاطهم دُفعة واحدة بل استجابتهم بالتخلّي عن الإنكار والمكابرة والقبول تالياً بمطالب قوى التغيير الديمقراطي، داخل الحراك الشعبي وخارجه، بما يؤدي إلى إقامة حكومة وطنية انتقالية بصلاحيات استثنائية لمدة لا تقلّ عن ستة أشهر، تتبنّى مطالب الحراك ومناصريه، وتلتزم تنفيذها بموجب جدول اولويات على النحو الآتي:

اولاً، التصدي للفساد والفاسدين وناهبي الأموال العامة بتدابير إجرائية وأحكام صارمة بالتعاون مع القضاء.

ثانياً، معالجة الضائقة المعيشية بتدابير اقتصادية واجتماعية معجّلة تضمن توفير المتطلبات الحياتية الأساسية وفي مقدمها الخبز والحرية والعمل والوقود والسلع الضرورية.

ثالثاً، معالجة اختلالات المالية العامة بهيكلة الدين العام، وخفض فوائده الجائرة، وضبط إدارة الجمارك، وتحصيل الرسوم والضرائب المستحقة في ذمة المتسلطين على الأملاك العامة البحرية والنهرية.

رابعاً، تطبيق الحوكمة الشاملة في الإدارات والمؤسسات العامة، وتفعيل أجهزة الرقابة والقضاء وتعزيز استقلالها عن السلطة التنفيذية، ومكافحة الاحتكار بتعزيز المنافسة وإلغاء الوكالات الحصرية، وحصر استيراد المحروقات والأدوية والقمح بالدولة.

خامساً، وضع قانون للانتخابات على أساس الدائرة الوطنية الواحدة، والتمثيل النسبي، واعتماد سن الثامنة عشرة للاقتراع، وتنفيذ المادة 22 من الدستور (مجلس للنواب وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف) وإحالته على مجلس النواب لإقراره خلال شهرين من تاريخ الإحالة وإلاّ يجري طرحه بموجب مرسوم اشتراعي على استفتاء عام بحيث يصبح قانوناً مشروعاً وشرعياً إذا نال أكثر من خمسين في المئة من أصوات المقترعين، ويصار تالياً إلى إجراء انتخابات عامة بموجبه خلال ثلاثة أشهر من تاريخ إقراره.

لعل أهم مهام الحكومة الانتقالية المار ذكرها قيامها بوضع ذلك القانون الديمقراطي الدستوري للانتخابات والإشراف على إقراره في استفتاء شعبي. ذلك أن لا سبيل إلى الانتقال من نظام المحاصصة الطائفية إلى نظام الدولة المدنية الديمقراطية إلاّ تدريجياً ومن خلال ترتيبات وإجراءات تكفل مشاركة أوسع كتلة من اللبنانيين في إقرارها. فقد فشل فشلاً ذريعاً اعتماد الانقلاب العسكري كما العنف في حرب أهلية لتحقيق التغيير الديمقراطي.

وحده التوافق الوطني الشعبي العريض كفيل بتحقيق إصلاحات جذرية في مسار طويل يقود إلى الخروج من الفساد والفوضى الخلاّقة إلى رحاب الدولة المدنية الديمقراطية، وقد آن الآوان.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/12/02

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد