آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. أمين محمد حطيط
عن الكاتب :
عميد ركن مقاعد ومفكر استراتيجي لبناني.. أستاذ في كلية الحقوق اللبنانية

بعد سليماني: ما المعادلات الناظمة للصراع الدولي في المنطقة؟

 

د. أمين محمد حطيط

فرض الردّ الإيراني على جريمة أميركا باغتيال الشهيد قاسم سليماني والشهيد أبو مهدي المهندس مشهداً جديداً في المنطقة التي بات محكومة بمعادلات جديدة، إذ أنتجت الجريمة والردّ عليها قواعد اشتباك ومواجهة لم تكن قائمة أصلاً او فُرض عليها تغيير خلافاً لما كان موجوداً قبلها.
لقد اتخذت أميركا قرار اغتيال الشهيدين بعد سلسلة إخفاقات منيت بها استراتيجياً في مواجهة محور المقاومة، إخفاقات حالت دون تحقيق أميركا أهدافها الاستخراجية التي عملت من أجلها طيلة 3 عقود من الزمن والتي ما كان “الحريق العربي” المسمّى أميركياً بانه “ربيع عربي“ ما كان هذا إلا من اجل تحقيقها.
فقاسم سليماني شكل في أدائه العسكري والسياسي وفهمه الاستراتيجي لمجريات الأمور في المنطقة والعالم وإدارتها، حالة مميّزة ناظمة لعمل محور المقاومة وضابط الإيقاع فيه في مواجهة المشروع الأميركي المعد للهيمنة على المنطقة. ولذلك كان القرار الأميركي بتصفيته ظناً من أميركا أن قتله سيخلق فراغاً في الميدان، وسيبثّ الرعب في صفوف القادة في محور المقاومة الذين تصنّفهم “إسرائيل” وتؤيّدها أميركا بأنهم الأخطر على المشروع الانكلوسكسوني صهيوني، وتالياً على وجود “إسرائيل”. لذلك كان قتله لوقف قطار انتصارات محور المقاومة ولضعضعة هذا المحور وإحداث وهن في العلاقة والتعاون والتنسيق بين مكوّناته ما يمكن أميركا من السير في مشروعها المتعثر واستنهاض ادواتها التي ظهر عليها الوهن وباتت مكوّناتها تتخبّط بالإخفاقات.
وعليه نرى أن القرار الأميركي بقتل سليماني لم يكن صدفة أو عملاً عارضاً في سياق مواجهة قائمة بل كان مخططاً كعمل استباقي وقائي لمنع الدخول في مرحلة جديدة خشيت أميركا منها بعد أن لاحت خطوطها مع ما آل اليه الصراع في المنطقة في السنوات العشر الأخيرة وبشكل خاص أرادت أميركا من الاغتيال قطع الطريق على تطور انتصارات المقاومة الى إطلاق حرب تحرير بوجه الوجود الأميركي بعد أن لاحت بوادرها في العراق وسورية فضلاً عن المخاوف الجدّية على هيبة أميركا العسكرية.
فأميركا كانت تدرك انّ الصراع في المنطقة المتعدّد الأطراف والوجوه لا يحتمل بالنسبة لها مثل هذه الأمور. وهنا من المفيد لإيضاح الصورة أن نسلط الضوء على تلك الأطراف وأهدافها كالتالي:
فمن حيث القوى المتصارعة تعرف أميركا أنها ليست الوحيدة المقررة في المنطقة، بل هناك قوى يمكن تقسيمها الى 3 فئات: فئة اللاعبين الأساسيين اصحاب المشاريع الخاصة، (أميركا وروسيا وتركيا و”إسرائيل” وإيران ومعها محور المقاومة) وفئة المتحرّكين كقوى مستفيدة او مساعدة او حتى أدوات في المشاريع، (الصين، فرنسا، المانيا، بريطانيا والسعودية، الامارات، مصر). وأخيراً الدول أصحاب مسرح العمليات حيث تتحرك الفئتان الأولى والثانية. (العراق، سورية، لبنان، اليمن، ليبيا).
اما من حيث الأهداف الاستراتيجية فتدرك أميركا بأن هناك أكثر من مشروع يعمل له في المنطقة وليس كما يروّج الاقتصار على مشروعها والمشروع المقاوم فأهداف الأطراف متعددة يمكن مقاربتها كالتالي:
أولاً – الأهداف الأميركية: تريد أميركا التي تنشر في المنطقة حالياً أكثر من 70 ألف جندي وضابط يتوزّعون على 52 قاعدة عسكرية تساندهم أساطيل بحرية فيها بالحد الأدنى 52 قطعة بحرية تريد إعادة إنتاج منظومة حراس مصالحها في المنطقة وتثبيت نظام سيطرة وهيمنة يمكنها من التحكم بالمنطقة عن بعد دون الحاجة الى استمرار الانتشار العسكري. وبهذا تضمن التحكم بالعالم نفطاً وغازاً ومعابر تجارية دون جهود عسكرية تذكر. وهذا ما عطله حتى الآن محور المقاومة.
ثانياً – الأهداف الروسية: تهدف روسيا التي وجدت في الباب السوري معبراً لها الى المنطقة وفي محاربة الإرهاب سبباً للدخول تهدف الى تثبيت وجود فاعل في شرق المتوسط ذي طبيعة دفاعية ومصلحية يمنع أميركا من حصارها وحرمانها من موقع ريادي في الصف الأول في النظام العالمي قيد التشكل كما أنها تريد امتلاك إمكانيات التأثير على سوق النفط والغاز وخطوط النقل والمعابر. ولذلك تجد روسيا أن المواجهة مع أي طرف من اللاعبين الأساسيين في المنطقة يعطل أهدافها، وأن التعاون والتنسيق مع ايران وتركيا ومهادنة “إسرائيل” وأوروبا وتجنب المواجهة الميدانية مع أميركا مفيد لها، هذا مع الاستمرار في دعم سورية ضد الإرهاب.
ثالثاً – الأهداف التركية: تريد تركيا الإمساك بمنطقة نفوذ وموقع تأثير وسيط بين أميركا وروسيا. بعد أن سقط مشروعها الإمبراطوري الكبير الذي كان يتكامل مع المشروع الأميركي ويخدمه. لكن تعثر تركيا في مشروعها الإمبراطوري جعل أميركا تتصرّف مع أدوات ومساعدين جدد دون أن تسقط الدور التركي. وبالمقابل اتجهت تركيا أيضاً للعمل مع روسيا في تبادل مصالح يعوض عليها تراجع الاهتمام الأميركي بها. ولهذا اتصف الدور التركي بالزئبقية المتحرّكة بين روسيا وأميركا.

وهي تراه بيضة القبان الاستراتيجي بينهما يحرصان عليها.
رابعاً – الأهداف الإسرائيلية: تريد “إسرائيل” تثبيت وجودها ووظيفتها في المنطقة، وجوداً صهيونياً قومياً لليهود، ودوراً في خدمة المشروع الأميركي الغربي الذي كان يجد في إسرائيل المتكأ والقاعدة الغربية المتقدمة في الشرق الأوسط. لكن “إسرائيل” دخلت في العقد الأخير في حالة فقدان هذا الدور بعد أن عجزت عنه بسبب محور المقاومة فتم الانتشار العسكري الغربي المباشر، وانحصر اليوم مشروع “إسرائيل” بالهدف الوجودي مع عطف هذا على هدف مصلحي أو ريادي في داخل بعض دول المنطقة، خاصة الخليجية.
خامساً – الأهداف الإيرانية: تريد إيران مع حلفائها في محور المقاومة إرساء حالة استقلالية في المنطقة تمنع السيطرة الأجنبية عليها وتنتج “منطقة لأهلها” خلافاً لمشاريع الهيمنة او الاغتصاب والاحتلال وبسط النفوذ الأجنبي. وترى إيران ان محور المقاومة هو القوة الاستراتيجية لتحقيق مشروعها في مقابل مشاريع الآخرين التي تتصادم إيران معهم بدرجات متفاوتة، صداماً مباشراً فورياً أو تعارضاً ضمنياً مؤجلاً. ولهذا تعمل إيران على خطين لتحقيق مشروعها: الأول الخط الاستراتيجي الذي يفرض مواجهة غير قابلة للمهادنة أو التراجع او المساكنة كما هو حال المواجهة مع أميركا و”إسرائيل”، ومواجهة مؤجّلة مع قابلية التعاون المرحلي او المساكنة الاستراتيجية القائمة تحت السيطرة والتحكم. كما هو الحال مع تركيا.
وتحقيقاً لأهدافها وأخذاً بالاعتبار لأهداف الآخرين اعتمدت أميركا في المواجهة أسلوب الحرب البديلة أو غير المباشرة، ويبدو ان جميع القوى الأخرى في الفئة الاولى تابعوا هذا النوع من الحرب، لكن الأمور تغيرت في أواخر العام 2019، حيث تحققت أميركا من أن القوى المناهضة لها خاصة روسيا وايران تستفيدان من نتائج المواجهة وتتمدّدان عن طريق القضم المتدرج والعمل التراكمي، فشاءت أميركا ان توجه انذاراً لتلك القوى خاصة بعد المناورة البحرية الثلاثية (الصين روسيا وإيران) وبعد التحرك الميدان العراقي في غير صالح أميركا، وبعد انطلاق سورية بدعم روسي في معركة تحرير إدلب، وبعد فشل الخطة المعدّة لإسقاط حزب الله في لبنان وإخراجه من الحكومة. لكل ذلك وجهت أميركا ضربتها لإيران ولمحور المقاومة مبتغية وقف المسار الانحداري لها، فكان اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
وبالتالي لم تكن عملية الاغتيال عملاً عارضاً او قراراً عفوياً بل جاء نتيجة تقدير استراتيجي عالي المستوى جعل صاحبه يقدم على قرار مخطط من طبيعة المغامرة – المقامرة، فإن ربح حقق المطلوب وإن خسر فإنه لا يغير الواقع كثيراً، طالما ان سلسلة التراجع قائمة. فهل صدقت الحسابات الأميركية؟
في مواجهة المغامرة – المقامرة الأميركية كان الرد الإيراني الذي خذل أميركا في توقعاتها، وبصرف النظر عن حجم الخسائر التي أحدثها، فإنه أرسى بعد الجريمة الأصل معادلات جديدة تؤكد ظهور إيران كقوة عسكرية كبرى ذات قدرات عالية تبعد الحرب وتنذر بحرب تحرير مقبلة وتمنع الآخرين من خداعها وتؤكد على التالي:
وهن هيبة أميركا وفقدانها قوة الردع الفاعل الحاسم لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
تسليم أميركا بعجز الحرب البديلة عن تحقيق أهدافها وعدم الجهوز للحرب المباشرة الشاملة.
التوجه الى تحرير المنطقة من الاحتلال بحرب تخوضها الشعوب وفقاً لقواعد الجيل الرابع.
التأرجح بين رسم حدود نفوذ أو حدود تعاون وتنسيق بين القوى الأجنبية والإقليمية.
مضاعفة اعتماد أميركا على الحرب الاقتصادية والتجويع بالإضافة الى نوع من الحرب الناعمة.

جريدة البناء اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/01/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد