آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
وليد شرارة
عن الكاتب :
باحث في شؤون العلاقات الدولية وأستاذ العلاقات الدولية

خشية من «ورطة» شرق أوسطية جديدة

 

وليد شرارة 

مَن المستفيد من دخول الولايات المتحدة في نزاع مديد جديد في الشرق الأوسط؟ أوساط النخب الأميركية التي تطرح هذا السؤال اليوم لديها جواب واضح عليه: الصين! لا تخفي هذه الأوساط خوفها من أن يُكرّر التاريخ نفسه، وأن تغرق واشنطن مرة أخرى في وحول منطقة لم تعد تُعتبر الأهمّ بالنسبة إليها، بعد التغيّر المعلن في الأولويات الاستراتيجية الأميركية من قِبَل مراكز صنع القرار السياسي والعسكري. وكانت أصوات عديدة قد ارتفعت، بضع سنوات بعد انطلاق ما سُمّي بالحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق، لشخصيات وازنة ومؤثّرة بين النخب وفي قطاعات معتبرة من الرأي العام، كزبغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكروفت، مستشارَي الأمن القومي في عهدَي الرئيسين جيمي كارتر وجورج بوش الأب، وريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، بالدعوة إلى التركيز على الصراع مع القوى الكبرى التي تَسارع صعودها، كالصين وروسيا، نتيجة لانهماك واشنطن في حروب مكافحة التمرد، وإخضاع السياسة الخارجية لهذه الأولوية. اعتقد الكثيرون أن وصول ترامب إلى السلطة، مع ما يحمله من توجّهات عدائية تجاه الصين، سيُشكّل مناسبة لترجمة هذه الرؤية إلى سياسات فعلية، لكن ارتفاع حدّة التوتر مع إيران في الأشهر الأخيرة، والخشية المتزايدة من إمكانية التدحرج نحو الحرب معها، يشجعان هؤلاء على الجهر بمعارضتهم لمسار ستكون تداعياته كارثية على الولايات المتحدة وموقعها في العالم.

عند وصول جورج بوش الابن وفريقه إلى السلطة، لم تكن جميع أطراف الدولة العميقة في الولايات المتحدة، والجهات المعنية بشؤون الاستراتيجية العامة للبلاد وسياساتها الخارجية، مُجمِعةً على ضرورة «إعادة صياغة الشرق الأوسط» كهدف مركزي يتقدّم الأهداف الأخرى. جناحٌ لا يستهان به من بين هذه الأطراف والجهات كان منذ تلك الفترة يعتبر الصين التهديد الرئيس للريادة الأميركية. مينكسين بي، مدير «مركز كيك للدراسات الدولية والاستراتيجية» في جامعة كليرمونت، والذي صَنّفته مجلة «بروسبيكت» من بين المئة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم عام 2008، ذَكّر في مقال نشره على موقع «بروجيكت سنديكايت»، بـ«الحادثة» التي وقعت في نيسان 2001 بين طائرة تجسّس أميركية كانت تحلّق فوق أجواء الصين ومقاتلة صينية حاولت اعتراضها بداية، ومن ثمّ اصطدمت بها وأسقطتها. تلت هذا التطورَ صفقةُ سلاح بين الولايات المتحدة وتايوان تَسبّبت بتدهور مريع في العلاقات بين بكين وواشنطن، وهجوم مركّز على الثانية من تكتل نافذ داخل إدارة بوش الابن. لكن عمليات الحادي عشر من أيلول 2001 قلبت الأمور رأساً على عقب، وفرضت ترتيباً مختلفاً لجدول أعمال الإدارة، منسجماً مع أطروحات المحافظين الجدد واليمين الصهيوني المتطرف. ويشير بي إلى أن هذا التغيير في سياسة الإدارة تَجلّى في موافقة الولايات المتحدة على دخول الصين إلى «منظمة التجارة العالمية» بعد ثلاثة أشهر من الهجمات. هو يجزم بأن «الفضل في المعجزة الاقتصادية للصين يعود إلى الردّ الكارثي لإدارة بوش على عمليات 11 أيلول». ووفقاً لبي، فإن الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2001 كان 1.21 تريليوناً، أي أقلّ بـ12% من ذلك الأميركي، لكنه أصبح فوقه في عام 2008 بـ31%، وفي عام 2019 بـ65%.

المشكلة هي في إصرار ترامب على الظهور كرجل قوي، ما قد يدفعه إلى اتخاذ قرارات متهوّرة

وعلى الرغم من أن ترامب قَدّم «المنافسة بين القوى العظمى» على أنها المبدأ الناظم لسياسته الخارجية، وباشر بحرب تجارية ضدّ الصين، إلا أن ارتفاع حدّة المواجهة مع إيران، وما قد يستدعيه من تعبئة للموارد والإمكانيات في شتى المجالات العسكرية والمالية والاقتصادية، سيدخل تعديلات كبيرة على جدول أعماله الأصلي. الصين، في نظر هذا الخبير الأميركي ذي الأصول الصينية، أمام الصين فرصة استراتيجية للاستفادة من هذه التعديلات، وهي ستسعى إلى تجنّب استفزاز ترامب عبر عدم مدّ إيران بالسلاح حتى ولو استمرت في استيراد النفط منها. «العقلاء» في واشنطن يدعون إلى التحسّب لتكرار خطأ بوش الابن، والاندفاع نحو مغامرة جديدة مكلفة ومجهولة العواقب في ظلّ تعاظم التحدّي الصيني، الذي بات اليوم شديد الوضوح مقارنة بـ2001. هؤلاء يوصون بردّ معتدل على أيّ ضربة إيرانية مباشرة أو غير مباشرة للأميركيين. هذا الأمر قد يُشجّع الإيرانيين، بحسب بي، على توجيه ضربات قاسية انطلاقاً من قناعتهم بأن الولايات المتحدة لا ترغب في تكرار تجارب الماضي. لكن المشكلة هي في إصرار ترامب بجموح على الظهور كرجل قوي، ما قد يدفعه إلى اتخاذ قرارات متهوّرة تقود إلى الحرب.
ما يزيد من احتمال اتخاذ قرارات متهوّرة هو افتقاد الإدارة إلى هدف نهائي واضح في معركتها مع ايران.

دايفيد فروم، وهو من رموز المحافظين الجدد، وكاتب خطابات جورج بوش الابن والرجل الذي ابتدع تعبير «محور الشر»، قال في مقال نشره على موقع «ذي أتلانتيك»، إن بإمكاننا تلخيص استراتيجية إدارة ترامب تجاه إيران على النحو التالي: نريد قتلكم، ولكن من دون دفع أيّ كلفة. جواب الإيرانيين البديهي هو: إذاً فلْتكن هناك كلفة. ويسخر فروم من الحجج التي يوردها أنصار الإدارة لتبرئتها من نتائج أفعالها، ويؤكد أن إلغاء الاتفاق النووي واتباع سياسة «العقوبات القصوى» هما اللذان أوصلا الأوضاع إلى ما هي عليه. ويختم بأنه «مهما كانت سلبيات الاتفاق النووي كثيرة، فإن إيجابيته الأساسية هي وجوده بذاته. ترامب لم يكن لديه بديل للاتفاق يوافق الشعب الأميركي على دفع ثمنه... نتيجة لذلك، تجد الولايات المتحدة نفسها متورّطة في نزاع يحتدم من دون أيّ استراتيجية للانتصار، مهما كان التعريف الممكن للانتصار في حالتنا هذه». أما الخبير الأميركي، جيفري أرونسون، المتخصّص منذ عقود في شؤون المنطقة والباحث في «معهد الشرق الأوسط»، فهو جزم بأن إدارة ترامب «تتبنّى تكتيك الاغتيالات السياسية غير الفعّال من دون أيّ رؤية حول كيفية توظيفها في سياق استراتيجية تخدم وتحمي المصالح الأميركية». والحقيقة هي أن افتقاد رأس الإدارة إلى استراتيجية فعلية حيال إيران، ووجود تيار قوي في داخلها يعمل على الوصول إلى الحرب خدمة لقناعاته العقائدية ودفاعاً عن إسرائيل، في وضع شبيه بذلك الذي ساد في عهد بوش الابن، يضاعفان من احتمالات حرب سيستفيد منها المنافسون الدوليون للولايات المتحدة بلا أدنى شك.

صحيفة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2020/01/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد