آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

البحث عن عالم آخر بعد وباء كورونا

 

د. سعيد الشهابي

ينسب للعالم الفيزيائي، ألبرت اينشتاين قوله: لكي تعيش البشرية فإنها تحتاج لنمط تفكير جديد مختلف جدا. ربما هذا أحد الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من المعاناة البشرية الحالية في ظل انتشار وباء فيروس كورونا. ما طرحه السيد أينشتاين يختلف تماما عن نمط التفكير الذي ساد الدوائر السياسية الغربية عندما بدأ انتشار الوباء في الصين. ونظرا لثقافة الاستهزاء والاستصغار والاستضعاف للشرق، وهي ثقافة لها جذور عميقة في الوجدان الشعبي الغربي، فقد أضاعت الحكومات الغربية الكثير من الوقت قبل أن تبدأ استعداداتها لمنع انتشار الوباء في بلدانها. ولذلك حدثت النتيجة التي يعيشها الغربيون اليوم. فها هي الصين وكوريا الجنوبية تتغلبان على الوباء تدريجيا، بينما تصارع الدول الغربية من اجل ذلك. وحتى الآن تجاوزت اعداد المصابين والموتى في الغرب ما حدث في البلدين، خصوصا الصين. ان ثقافة التنميط واستصغار الآخرين والاستكبار من اسباب ذلك. فان حدث تغير جوهري في نمط التفكير، كما يقول اينشتاين، فسيكون بالإمكان تجاوز هذه الكارثة في وقت أقصر. فها هي الصين تنهض من أزمتها الوبائية وتتصدى لمساعدة الدول الاخرى لمواجهة هذه الكارثة. وقد اوصلت مساعداتها الطبية لمكافحة الوباء الى 90 دولة حتى الآن من بينها ايطاليا وفرنسا واسبانيا وبلجيكا وهولندا وصربيا وبولندا، بالإضافة لدول افريقية عديدة منها جنوب افريقيا وناميبيا وكينيا. ومنذ اللحظات الاولى لانتشار الوباء أعلنت إيران وقوفها بجانب الصين، على عكس الموقف الغربي الشامت.
هذا النمط من التفكير الانساني ساهم في امرين: ترويج مبدأ الوحدة الإنسانية كمبدأ اسلامي وانجاح جهود مكافحة الوباء في البلدين. في الوقت نفسه كان هناك انماط مختلفة من التعاطي مع وباء الصين. وسوف يسجل التاريخ ان الرئيس الامريكي قدم أسوأ الأداء وقزّم امريكا، هذا البلد العملاق يتحول تدريجيا الى كيان متعب بقيادة رجل تحركه الافكار الشيطانية، الاستكبارية والعنصرية والفوضوية. كان لا يكف عن ايذاء الصين والاستخفاف بها ابتداء بالحديث عن «الفيروس الصيني» الذي اثار الكثيرين، مرورا باتهام الصين بنشر الوباء في امريكا وتكرار الهجوم على «الحزب الشيوعي الصيني)» وصولا للاستخفاف بالوباء وعدم الاستعداد له. وكانت نتائج ذلك كارثية على الولايات المتحدة الامريكية. فبينما تستطيع قصف الابرياء من الجو والبحر والارض من مئات الاميال، اصبحت عاجزة عن مواجهة فيروس ينخر في كيانها ويضاعف اعداد المصابين بما يقرب من 20 ألف حالة يوميا. أهو الغباء؟ ام نتيجة الاستعلاء والاستكبار والغرور؟ أيا كان الامر فالواضح ان امريكا وبعض الدول الغربية بدرجة أقل لم يكونوا بمستوى المسؤولية عندما ظهرت الحاجة لقادة مسؤولين عن توفير حماية واقية للبشر. فالعلم وحده لا يكفي لتقديم العلاجات ما لم تكن هناك ارادة سياسية. هذه الارادة توفرت لدى الصينيين، ولم تتوفر لدى الغربيين. وتؤكد الارقام الكبيرة لانتشار المرض في بعض هذه الدول عجز الساسة عن الاستفادة من العلم والعلماء وقت الحاجة، الامر الذي كانت نتائجه كارثية. فقد تجاوزت اعداد الإصابات والوفيات نتيجة المرض في امريكا وايطاليا واسبانيا وفرنسا عدد الاصابات والوفيات في الصين.
العالم لن يكون كما كان بعد انتهاء وباء كورونا. فالغربيون وقعوا ضحية الشعور الوهمي بالتقدم العلمي، فاكتفوا بتوجيه النقد المتواصل للخطط الصينية التي أثبتت بعد حين نجاحا يفوق كافة خططهم
اما ايران فلها قصة اخرى مشابهة للصين. فهي تتعرض لحصار فرضته امريكا لم يحدث مثله في التاريخ الحديث لدولة اخرى. وهي بلد يفوق عدد سكانه كلا من ايطاليا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا، ولدى شعبها ثقافة مختلفة، جعلته غير قادر على إحكام فرض الحجر المنزلي بكفاءة، فحتى الآن لم تتوقف حركة السيارات والبشر في الشوارع. بل ان بعض مواطنيها تمرد علنا على اوامر الحجر الصحي واقتحم المساجد والاضرحة. وإيران هي البلد الذي تعرض لتهكم واسع من قبل جيرانه بعد انتشار الوباء فيه. حتى ان حكومة البحرين وإعلامها ووسائل تواصلها الاجتماعي شنت حملة واسعة ضد الجمهورية الاسلامية واتهمتها بالسعي لتصدير الوباء الى اراضيها (تماما كانت التهمة التي تكررت حول سعي طهران لتصدير ثورتها للخارج). وبموازاة ذلك كانت الطائرات القطرية تنقل المساعدات الطبية لإيران، الأمر الذي كان له وقع ايجابي كبير لدى الإيرانيين.
العالم لن يكون كما كان بعد انتهاء وباء كورونا. فالغربيون وقعوا ضحية الشعور الوهمي بالتقدم العلمي، فاكتفوا بتوجيه النقد المتواصل للخطط الصينية التي أثبتت بعد حين نجاحا يفوق كافة خططهم. واتضح الآن أن هذه العقلية ساهمت في توفير الفرصة لانتشار الوباء مع غياب ادوات الفحص والعلاج. كان هناك اكثر من شهرين ولكن ثبت الآن فشل هذه الحكومات في الاستعداد للوباء الفتاك، الامر الذي ادى لإصابة اكثر من مليون شخص حتى الآن اغلبهم في اوروبا وامريكا.

فهذه البلدان المتقدمة علميا وصحيا تفتقد الملابس الواقية التي تحتاجها الطواقم الطبية وفرق الانقاذ، وليست لديها امكانات تكفي لفحص الموبوئين، ولذلك تطالبهم بالحجر الصحي بدون التأكد من اصابتهم بالمرض. هذه الدول لم تبادر لتوفير اجهزة التنفس لمساعدة من يضرب المرض اجهزتهم التنفسية، ولا الأسرة الكافية في غرف العناية المركزة. صحيح ان حجم الوباء يفوق القدرات الاستيعابية لدى المستشفيات التي بنيت لعلاج الامراض المعتادة، ولكن الامر المزعج تلكؤ الحكومات في الاستعداد للوباء برغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية قبل اكثر من شهرين بان الوباء سوف يصل اغلب بلدان العالم. ومما يؤسف له ان هذه الدول لم تتخل عن مواصلة تدخلاتها العسكرية في البلدان الاخرى. فبريطانيا وامريكا ما تزالان مشاركتين في الحرب السعودية الاماراتية البحرينية على اليمن، وما تزال قواتها مع القوات الامريكية متواجدة في قواعد عسكرية في انحاء العالم خصوصا في العراق وسوريا. والنقد يوجه كذلك للعديد من الدول العربية التي تسجن الآلاف من مواطنيها لأسباب سياسية بحتة لأنهم مارسوا حقهم في التعبير عن الرأي او الاحتجاج السلمي، برغم اقتحام الوباء بعض السجون خصوصا في البحرين ومصر. فأين الانسانية واين حقوق الإنسان؟ ومنذ شهرين كررت الجهات الحقوقية الدولية كمجلس حقوق الإنسان ومنظمة هيومن رايتس ووج ومنظمة العفو الدولية بإطلاق سراح السجناء لمنع انتشار الوباء داخل السجون، ولكن بدون جدوى.
واذا كان ثمة نجاح حتى الآن فقد ساهم المواطنون فيه بشكل كبير. فقد فرضوا على أنفسهم حجرا صحيا، وتوقفوا عن الذهاب للعمل والتزموا بتوجيهات الجهات الصحية، وبدأوا يفكرون ايجابيا في قضايا لم يعتادوها كثيرا من قبل: كيف احمي نفسي واحمي الآخرين؟ كيف اساعد كبار السن والعجزة الذين لا يستطيعون التسوق؟ كيف ارفع معنويات الطواقم الصحية التي يقف افرادها على الخط الامامي في مواجهة الفيروس؟ ولا شك ان هذا السلوك يساهم في خلق المواطن الصالح المسؤول ويقلص النزعة الانانية لدى البعض، ويقرب الجاليات من بعضها، ويستبدل مشاعر الكراهية والتعصب والعنصرية بالحب والاحترام. هذه الزوايا المضيئة في الزمن المعتم تفرض على المجتمع البشري تغييرات جوهرية بعد انتهاء الوباء. خصوصا ان هناك مؤشرات كثيرة انه قد يجدد نفسه ويضرب بقوة اشد مستقبلا. كما ان تداعي الاوضاع البيئية يساهم في حدوث وباءات اخرى ليست في الحسبان. لذلك أصبح هناك ضرورة لتوجهات وسياسات مختلفة، واصبح لقول اينشتاين صدى واقعي: لكي تعيش البشرية فانها تحتاج لنمط تفكير جديد مختلف جدا.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2020/04/06

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد