آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

لبنان بين الاحتقان الداخلي والتآمر الخارجي

 

د. سعيد الشهابي

في مثل هذه الايام قبل 45 عاما كان لبنان على مشارف حرب اهلية استمرت 15 عاما وادت لفناء قرابة 120 الف مواطن من كافة الأطراف التي شاركت في ذلك الصراع.
ومنذ اتفاق الطائف في العام 1989 ساد الشعور بأن اللبنانيين تعلموا دروسا قاسية من ذلك الصراع وما نجم عنه من معاناة، وأنهم لن يسمحوا في المستقبل للقوى الخارجية بتعكير أوضاع البلد العربي الذي استطاع اهله التعايش بسلام، برغم اختلافهم وخلافاتهم. فلم يطالب أي طرف بالانفصال او اقامة دولة او كيان سياسي مستقل، بل ان احدا منهم لم يدع لـ «حكم ذاتي»، الأمر الذي يُفسر بأنه تعبير عن وعي صقلته التجربة المرة. وطوال العقود الثلاثة الماضية ظهرت نزعات انفصالية في بلدان عربية شتى لا تعاني من تباينات دينية كما هو الحال في لبنان. فقد انفصل جنوب اليمن عن شماله في 1994، بدعم سعودي، ولم تتم استعادة الوحدة الا بعد مناوشات واقتتال.
وتعاني الجزائر من نزعات انفصالية بدوافع عرقية، فلم تغب النزعة الانفصالية لدى الامازيغ البربر عن الكيان الجزائري، بدعم فرنسي.
وما تزال المطالبة بإقامة كيان منفصل عن المغرب في الصحراء الغربية (أو المغربية) مصدر اضطراب سياسي في المغرب العربي، كثيرا ما انعكس على العلاقات بين الجزائر والمغرب. ولم يسلم العراق من دعوات التقسيم، تارة على أسس عرقية (بين الاكراد والعرب) واخرى مذهبية (السنة والشيعة). ويمثل السودان تجربة عملية لمعنى الانفصال، فقد انفصل جنوبه عن شماله بتأسيس على التباين الديني بين الإقليمين برغم تداخل المسلمين والمسيحيين في كلا «البلدين» حتى بعد الانفصال. وما أكثر الخطط التي تهدف لتقسيم البلدان العربية الكبرى، وليست مصر بعيدة عن هذه الخطط، كما ان السعودية هي الاخرى مستهدفة بالتقسيم. أما ما يجري اليوم في اليمن من محاولات جادة لفصل الجنوب عن الشمال فهو مصدر قلق كبير منذ أن شن التحالف السعودي- الإماراتي الحرب على اليمن قبل أكثر من خمسة اعوام.
أين ذهبت آمال دعاة «الوحدة العربية»، ذلك الشعار الذي ارتبط بتصاعد مشروع «القومية العربية» منذ مائة عام تقريبا؟ من المؤكد أن سقوط الدولة العثمانية آنذاك وتعملق الاستعمار في المنطقة كانت من بين عوامل تجذر المشاعر القومية لدى الجماهير العربية، ولكن تلك المشاعر لم تكن كافية لإزالة الحدود التي وضعها الاستعمار بعد سقوط «الخلافة الاسلامية». وبرغم ان هذا المشروع يروق كثيرا لدعاة الوحدة الاسلامية، الا ان تجارب القرون الماضية لم تكن مشجعة كثيرا، فطالما تداخلت المصالح القومية والعرقية وهمشت المشروع الإسلامي الذي رفعته شعارا. أيا كان الامر فان دعوات الوحدة تتصادم دائما مع نزعات الانفصال. يحدث هذا في العالم العربي كما يحدث في الغرب ايضا. ألم تنفصل المملكة المتحدة العام الماضي رسميا عن الاتحاد الاوروبي؟
أليس هناك صراع سري وعلني بين مجموعات الباسك للانفصال عن اسبانيا؟ لذلك فمن الصعب الاعتقاد بوجود ايديولوجية فاعلة تستطيع توحيد البلدان او الشعوب ما لم تكن مؤسسة على ما يشد الناس الى بعضهم ويضعف النزعات التي تؤكد «الخصوصية» سواء العرقية ام الثقافية ام الدينية ام المذهبية. فكل من هذه النزعات يكفي للتحريض على الانفصال خصوصا في وجود دعم او تحريض خارجي لذلك. وما أكثر المحرضين على التقسيم والانفصال بدوافع مصلحية آنية، تتصدرها الرغبة في الهيمنة او إضعاف الكيان الموحد الذي قد يمثل تحديا لمصالحهم. وإذا كانت الاصابع توجه لكل من السعودية والإمارات ومصر وإيران وتركيا كقوى «توسعية» فان الحديث عن دعوات التقسيم تختلف عن النزعة لتوسيع النفوذ. فمثلا يمكن ملاحظة اختلاف جوهري بين التوجهين السعودي والإيراني. فالسعودية دأبت على تشجيع انفصال الجنوب اليمني لكي تضمن نفوذها في اليمن، وكانت من المحرضين على تقسيم العراق بدعم بعض اطرافه كوسيلة لبسط النفوذ.

منذ اتفاق الطائف في العام 1989 ساد الشعور بأن اللبنانيين تعلموا دروسا قاسية من ذلك الصراع وما نجم عنه من معاناة، وأنهم لن يسمحوا في المستقبل للقوى الخارجية بتعكير أوضاع البلد العربي الذي استطاع أهله التعايش بسلام

الحرب اللبنانية الأولى لم تكن منفصلة عن التأثيرات الخارجية، فقد حدثت في ذروة الحرب الباردة والصراع من اجل النفوذ سواء لدى الدول الكبرى ام الاقليمية. وبشكل عام كان المسيحيون يشعرون بانتماء أقوى للغرب المسيحي من الشرق الإسلامي، بينما كانت الطوائف الإسلامية (السنة والشيعة والدروز والفلسطينيون) محسوبة على الاتجاه اليساري المناهض للإمبريالية والاستعمار.
كانت تلك لغة العصر آنذاك، وان لم تكن هي الاساس في تلك الحرب الطاحنة التي أتت على الاخضر واليابس. ولعل النتيجة الاهم التي خلص اليها اللبنانيون ان مصالحهم (على تعدد أديانهم ومذهبهم) لن تتحقق الا في ظل لبنان موحد، ومؤسس على الحرية والديمقراطية.


هذان الشعاران ما يزالان مختزنين في الذاكرة اللبنانية ويمثلان صمام امان لمواجهة دعوات التقسيم والحرب الأهلية. مع ذلك فان شبح الحرب شاخص للمراقبين. هذه المرة طرحت الأزمة الاقتصادية عنوانا للاضطراب. وتزامنت بداية ازمة لبنان الحالية مع الحراك الذي حدث في السودان والجزائر. كما لوحظ وجود دور سعودي واماراتي في اغلب هذه الأزمات. وقد تدخلت الإمارات في الوضع السوداني وكان لها دور في التصدي لما تعتبره نفوذا للإخوان المسلمين، واستضافت اجتماعات حضرها العسكريون وبعض «قادة الثورة» حتى تم التوصل للصيغة الحالية التي استعاد العسكريون فيها زمام المبادرة واحتفظوا بالحكم، ولوحظ كذلك توجه السودان الجديد لمد الجسور مع الكيان الإسرائيلي، والتقى الرئيس برهان برئيس الوزراء الإسرائيلي في اثيوبيا. وما تزال ازمة الجزائر قائمة اذ لم تحل بشكل كامل، بانتظار ما تؤول اليه الأزمات الاخرى.
اما في العراق، فلم تنحسر الاضطرابات الا بعد تنصيب رئيس الوزراء الحالي بموافقة من السعودية والإمارات وأمريكا. ولكن ليس معلوما بعد ما إذا كان هذا الوضع سيستمر لأنه مشروط بالتصدي للدور الايراني في العراق، وهو أمر لا يستطيع رئيس الوزراء الجديد تحقيقه.
في الاسبوع الماضي قالت الإمارات بصراحة انها لن تدعم لبنان في محنته الاقتصادية الحالية إلا إذا اتخذ اجراءات للحد من نفوذ حزب الله. وهذا هو الموقف الإسرائيلي الذي يسعى لتحجيم نفوذ قوى المقاومة في المنطقة ويحرض حلفاءه في الرياض وابوظبي والمنامة على ذلك. وزير خارجية الإمارات ربط اي دعم للبنان بقرارات «الدول الكبرى» قائلا: «إذا شهدنا بعض أصدقائنا والقوى الكبرى المهتمة بلبنان يعملون على خطة فسنفكر في الأمر. لكن حتى الآن ما نراه هنا حقا تدهور لعلاقات لبنان العربية وعلاقاته الخليجية على مدار السنوات العشر الماضية. ولبنان يدفع جزئيا ثمن ذلك الآن».
وهكذا يلعب المال النفطي دوره في توجيه بوصلة الدول والحكومات، ليس من اجل توحيد الأمة ومواقفها ازاء التحديات خصوصا الهيمنة الغربية والاحتلال والاستبداد، بل لتثبيت سلطة المال واستخدامه لبناء امبراطورية سياسية تمتد من الجزيرة العربية الى افريقيا وبعض مناطق اوروبا. هذا في الوقت الذي لم يستطع هذا المال تحقيق الوئام داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه او دعم نضال الشعوب في فلسطين واليمن وسوريا ولبنان. وموقف الإمارات يعبر عن سياسة دول الثورة المضادة بزعامة السعودية.
فالوضع الاقتصادي اللبناني يعاني ضعفا بنيويا لأسباب عديدة، منها تراجع الدعم الخارجي وتضاؤل عائدات العاملين في الخارج وتقلص السياحة والضغط الأمريكي الذي من بين أساليبه فرض عقوبات على بعض اللبنانيين. وكانت الاحتجاجات التي انطلقت منذ عام تقريبا تطالب بمحاربة فساد الطبقة الحاكمة وزيادة الانفاق العام وتوفير الخدمات وتقليص الضرائب على المواطنين، ولكن سرعان ما تحولت الى اداة ضد النظام السياسي. وهذا ما حدث في العراق ايضا. ودخل الاقتصاد اللبناني حالة من التراجع اللولبي الذي تفاقم مع الوقت.
في هذه الاجواء اصبح واضحا ان لبنان يُدفع نحو حرب اهلية على غرار ما عاناه قبل اقل من نصف قرن، ولكن الارجح ان ذلك لن يتحقق نظرا لحالة الوعي والتفاهم بين مقوماته وشعورهم بان بلدهم مستهدف في وجوده وحريته واستقلاله وممارسته الديمقراطية وتعايش اهله على اختلاف انتماءاتهم.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2020/06/29

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد