آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الرحمن مرشود
عن الكاتب :
كاتب سعودي مهتم بالشأن الثقافي والفكر والفلسفة

الأرجل أم اللحاف


عبدالرحمن مرشود ..

 يعمل أغلبنا على التفويض في بعض شؤونه مقابل المال، في الوقت الذي يحرص على مباشرة بعض الأمور بنفسه. لعلّ هذه من أبسط الأفكار الاقتصادية التي يدركها أغلبية الناس. ولكن ما هو المعيار الذي يستعمله العقل الاقتصادي في التمييز بين تلك الأعمال التي ينبغي فيها التفويض، وأعمال أخرى ذات أولوية بحيث يكون التفويض فيها أكثر كلفة من المباشرة. يعتمد هذا على (سعر) عاملين مهمين في عملية الإنتاج، هما عامل (المعرفة)، وعامل (الزمن).

أنت تفوّض طبيب الأسنان ليتولى أمر أسنانك لأنه يملك من المعرفة ما لا تملكه أنت، تلك المعرفة التي لو أردت الحصول عليها لاجتزأت من عمرك أعواماً في سبيلها، لذا فإن دفع أجرة طبيب الأسنان أقل كلفة عليك من ذلك. في المقابل ربّما تفوّض أمر غسل سيّارتك للآخرين أيضاً، وليس ذلك لانعدام درايتك بالأمر وإنما لسبب آخر هو ارتفاع سعر ساعة عملك الزمنية بحيث يؤدي إنفاقها في غسل السيارة وعدم توظيفها في مجال ربحها الأعلى نوعاً من الهدر الاقتصادي، فإذا كنت تجني ثلاثمئة ريال في ساعتك العملية أثناء مزاولة مهنتك كمهندس مثلا، فسوف يكون من الهدر تبديدها في عمل لا يوفر لك أكثر من عشرين ريال مثلاً!
من الممكن إدراك هذا ببساطة عندما نتكلم عن دوائر النشاط الفردي، ولكن تجاهل هذه الفكرة رغم وضوحها، كثيراً ما يحدث عند تناولنا أمر النشاطات الاقتصادية للمجتمعات.

على سبيل المثال، هناك أطروحة يرددها بعض من يتصدى لمعالجة قضية الاقتصاد الوطني محتواها هو: "يتسبب وجود العمالة الوافدة بتسرب الكثير من الأموال إلى الخارج، لذلك علينا اتخاذ إجراءات سياسية وقانونية أكثر من أجل توجيه شبابنا نحو تولي الأعمال التي تقوم بها هذه العمالة"، بل ربما دعا البعض لتقليص القبول في الجامعات لقسر الشباب والفتيات نحو العمل في القطاعات المهنية. يظن هؤلاء أن الأمر يتوقف ببساطة على أن مفهوم (العيب الاجتماعي) هو فقط ما يحول دون اقتناع الشباب والفتيات بتنظيرهم، ولا يدركون أنهم لم يلجوا القضية من مدخلها الاقتصادي الصحيح أصلاً. يتجاهل هؤلاء الإطار الأكبر لقضيتنا الاقتصادية، وهو اعتماد البلاد على النفط كمورد أساسي، هم ينشغلون بكيفية إعادة تدوير المال الناتج عن هذا المورد دون أن تقفز أذهانهم قليلاً إلى التفكير في قضية عجز اقتصادنا عن توفير موارد أخرى تستقطب المال إلى داخل البلاد. بالتأكيد لن يساعدنا في حل هذه المشكلة عدد أكبر من الحلاقين أو الدهانين أو عمال البنشر المحليين رغم أهمية هذه الأعمال بالطبع. فقط ما يساعدنا في حلها هو وجود كفاءات وطنية عالية التعليم في مجالات متنوعة لا يتوقف عملها على مجرد الانخراط في ما هو موجود، بل يتجاوز ذلك إلى إيجاد الأفكار وخلق البيئة التي تستقطب المال من الخارج وتستثمره في الداخل على نحو متجدد وقابل للتحسين المستمر. إذن فالذي يقترب بنا نحو الانتعاش الاقتصادي ليس حجب فرص التعليم كما يتوهم هؤلاء، بل المزيد من إتاحة المجال لهذه الفرص.

ينظر هؤلاء إلى الاقتصاد كغطاء محدد الأبعاد غير قابل للسعة والتمدد، لذلك يقعون في مغالطة المطالبة بقص أرجلنا لكي يتحقق التواؤم مع ذلك الغطاء المحدد سلفاً، بدلاً من التساؤل بشكل منطقي حول إمكانية فرص توسيع أبعاده!

كما يجهلون أن مفهوم (الإنتاجية) وليس مجرد (الكدح) هو ما يحقق انتعاش الاقتصادات القوية بالعادة. فالإنتاجية هي قدرة رأس المال البشري على تحويله مدخلات الإنتاج إلى سلع وخدمات، فما يدر الربح على مزرعة قمح مثلاً ليس عدد العمال الذين يعملون بها، بل كمية ما تنتجه من القمح، لذا فإن مزارعاً واحداً يجيد التعامل مع حرّاث آلي عالي الكفاءة يحقق من الربح ما لا يحققه عمل أربعين مزارعاً بأيديهم العارية. يفكر الاقتصادي الحاذق بطرق تكبير كعكة الاقتصاد وليس مجرد إعادة توزيع الحصص في كعكة لها الحجم نفسه دائماً.

أخيراً فإن العناية بالمزيد من التعليم لا تتوقف أهميته على مجرد الجني المباشر للنقود، بل تتجاوز ذلك إلى الارتفاع بمستوانا كأسر صالحة لتنشئة الأطفال ومجتمعات أكثر تقديراً للثقافة والحس الإنساني، وأعلى قدرة على التمتع بمعاني الحياة، والاهتمام بصحة العقول والأجساد التي تشكل بدورها أكثر ركيزة اقتصادية لا ينبغي علينا إهمالها. "كلّ سنة تعليمية إضافية تحظى بها امرأة في بلد نام ينجم عنها انخفاض مقداره من خمسة إلى عشرة بالمئة من احتمال تعرّض طفلها للوفاة قبل سن الخامسة"، كما يقول بعض الاقتصاديين.

هل علينا أن نفرّط في كل هذا تحت تأثير الخشية من تحويلات العمالة الوافدة، بينما بإمكاننا العمل بفاعلية نحو عكس اتجاه أضعاف هذه التحويلات لتفد إلينا؟
لماذا يتوقف طموحنا عند مجرد لملمة تسربات المال الموجود لدينا سلفاً؟
نعم، لنسعَ إلى تأهيل أبنائنا وبناتنا بحيث يفوضهم الآخرون بأعمالهم شراءً لما يملكون من (المعرفة القيّمة) وليس زهداً بهدر (وقتهم الخاص) في ما يتولونه من أعمال.

صحيفة الوطن أون لاين

أضيف بتاريخ :2016/05/04

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد