آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد عبد الله محمد
عن الكاتب :
كاتب بحريني

كما وصلني

 

اعتاد كثيرون أن يُرسلوا أخباراً ومعلومات كاذبة وبالتحديد من (وعلى) الهواتف الجوَّالة. لكن، ظهر إلى جانب هؤلاء أشخاص يدأبون على إرسال تلك الأخبار والمعلومات، إلاَّ أنهم يكتبون أسفلها هذه العبارة: كما وصلني أو ما يجاريها من مفردة مماثلة. وربما هم بذلك، لا يريدون أن يتحمَّلوا مسئولية ما أرسلوه من أخبار ومعلومات إنْ كان حقيقة أم كذباً، لكن العِبرَة بالخواتيم كما يُقال. أي أنهم أرسلوها، وعمَّموها وأشاعوها دون أن يتحققوا من صحتها.

 

وحين ندقق في ذلك المشهد، فإننا سنكتشف بأن هذا النوع من الرسائل هو كسابقه من حيث التأثير السلبي على الرأي العام، والفرق هو في شكل الإرسال، وبإضافة تلك العبارة، التي لا يمكنها أبداً أن تُحوِّل الرسالة الكاذبة إلى رسالة صادقة، أو تُقلِّل من أثرها الخطير على المتلقي. كما أن تلك العبارة، لا يمكنها أن تبرِّئ ساحة مُرسلها لتجعله شخصاً لا يتحمّل مسئولية ما أرسله. فهو مُطالَبٌ أن يتحقق من صحة ما أرسله أولاً، وإلاَّ أن يجبّه ويحبسه لا أنْ يشيعه بين الناس.

 

الحقيقة، وفي أحيان كثيرة، يُصاب المرء بالغثيان والتعجب من أحوال هؤلاء. فالبعض ليس له حظ في التعليم ولا المعرفة وإنما بقشر التقدم عبر امتلاكه تقنية حديثة (هاتف ذكي مثلاً)، فينزلق في تصديق الزخرف من القول ويعيد إرساله (رغم أنه ليس معذوراً) لكن أن يقوم شخص متعلم (كما يدَّعي ذلك على الأقل) فهذا أمر مُحبط جداً، ويُشعرنا أن المجتمع تتهدده أخطار ستعيده للوراء. فإذا كانت عقول المتعلمين بهذا الضعف في الرؤية وتمحيص الكَلِمْ والمعلومة فإلى أين نسير إذاً؟!

 

كلما وقفت على أمر مشابه، أتساءل: ترى، ما الذي يجعل هؤلاء أن يُسارعوا إلى إرسال تلك الأشياء الكاذبة دون نظر؟! هل هو السَّبق أم للظهور بمظهر أنهم يعلمون! فإن كان سبقاً، فالسَّبْق الذي تعلمناه في دراسات الإعلام ليس في بث الهراء وإنما في قدرة الصحافي المتميّز على الحصول على «المعلومة» قبل غيره بطريقته الخاصة وسعيه واقتناصه الفرص. وإن كان هدفهم «شياع العلم» فهذا ليس علماً بل تزييفاً. وقد قال جورج برنارد شو مرة: «إحْذر من العلم الزائف، فهو أخطر من الجهل».

 

لنا أن نتخيَّل بأن مقاطع فيديو تُرسَل تباعاً وفي كل مرة يتم تعريفها بشيء جديد، ويتم تحديد مكانها بشكل مختلف، فمرة يقال لنا أنها وقعت في هذا البلد، وتارة في ذاك البلد، ومرة يُقال أنها حصلت لهذا السبب، ومرة أخرى جرت لذلك السبب، دون إحاطة بالشيء. وفي كل محطة استلام يُصدّقها البعض ويعيد إرسالها، فتُؤسّس عليها أشياء ومواقف، بل وتُثوَّر حتى مشاعر.

 

قبل أيام قدَّمت إحدى القنوات الفضائية اعتذاراً لمشاهديها بعد أن عرضت مقطع فيديو قالت بأنه «لحادث سقوط الطائرة الروسية» في شبه جزيرة سيناء ثم تبيَّن عدم صحته. وقالت القناة: «لم يتسنَ لنا التأكد من صحة المقطع، وتخيلنا أنه ربما يكون صحيحاً» لحادثة الطائرة. وأكّدت في اعتذارها ذاك، أن عرضه بدون التأكد منه «لا يعفينا من المسئولية». هذا الأمر يتكرَّر يومياً وإنْ لم يكن عبر قنوات فضائية، لكنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبطريقة مقززة.

 

ماذا لو بُثَّت عشرة آلاف من مقاطع الفيديو الكاذبة في اليوم سواء عبر التراسل الفوري بين الأفراد أو عبر القنوات الفضائية، ودون أن يُصوّبها أو يعتذر عنها أحد، تُرى ما هو حجم دائرة تشويه الوعي التي ستصيب المجتمعات، التي لن تنفعها كلمة: كما وصلني؟! ثم هل سيكون 120 مليار مقطع فيديو مرفوعاً على شبكة اليوتيوب في أمان من التشويه أم أنها ستصاب لاحقاً بعدم اليقين؟! هذه أسئلة مشروعة جداً ويجب أن تجعلنا نخشى أن نُشِيع الجهل بأيدينا.

 

حسب الإحصائيات، فإن هناك 4 مليارات مشاهدة يومية لمقاطع فيديو على النت. كما يُرفع يومياً 200 ألف مقطع فيديو على اليوتيوب. هذا بخلاف الأخبار المكتوبة كنصوص والتي يتلاعب بها كاتبوها كلٌ بهواه الآيدلوجي والسياسي والديني وحتى الشخصي، وبالتالي فنحن أمام كمّ هائل من المعلومات والمشاهد، التي تحتوي على مغالطات ثم يأتي مَنْ يساهم في بثها، حامياً نفسه بكلمتين: كما وصلني.

 

في كل العلوم، يحتاج المرء إلى التروِّي والتوثّق من الشيء. فالحثّ على الثقة والتثبُّت في أصول المعرفة العلمية والإنسانية والاجتماعية والتقنيات والعلوم التطبيقية هو ذاته في تمرير المعلومات والأقوال بين الناس؛ لأن الخلاصة هي أقوال تليها أفعال، وبالتالي فنحن أمام حركة الحياة كلها.

 

فكما الذين درسوا علم الرجال في البحوث الدينية أدركوا قوانين رواية الأوثق عن الثقة، وقول الثقة وكتابته، وانضمام القرائن، والظن الاطمئناني حتى يصلوا إلى الحقيقة، استعان أصحاب البحوث الأخرى بالبيانات والمسح أو التتبع أو التبادل كي يتوصلوا إلى نتائج معقولة. هذا الأمر ينسحب على كل أشكال الخطاب والكلمات والصور التي تذهب بنا إلى نيل الحقائق افتراضاً.

 

لنتفق جميعاً أن نبتعد عن إرسال ما يصلنا ما لم نُمحّصه جيداً. فاليوم معركتنا الحقيقة هي مع تثبيت الحقائق التي بها يترشَّق العقل وحتى الخيال، ومحاربة الهراء، الذي سيجعلنا متخلفين حتى لو خُيِّل لنا أننا أصحاب علم وتعليم.

 

الكاتب: محمد عبد الله محمد

المقال لصحيفة الوسط البحرينية.

أضيف بتاريخ :2015/11/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد