آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الله الناصر
عن الكاتب :
كاتب في صحيفة الرياض كتب في عدة صحف ومجلات سعودية

أفلاك الحيرة

 

عبدالله الناصر

سبق أن كتبت عن وضع المجتمع العربي وقلت أنه لم يعد مجتمعاً منسجماً مع ذاته، بل هو مجتمع تفلتت روابطه الإنسانية، وتخلقت لديه روابط أخرى وعلائق نفعية. أي أنه مجتمع انشغال واستهلاك.. فالناس يلتقون في أعمالهم في المؤسسات، والدوائر، والبنوك، والمحال التجارية وغيرها. وهم لا يلتقون في الواقع وإنما يجتمعون وكل مشدود إلى كرسيه أو آلته أو جهازه الخاص. بمعنى أنه لم يعد مجتمعاً منسرحاً، ممتداً يشكل رقعة متشادة متماسكة، وإنما هو مجتمع حلزوني يتصاعد في ازدحام وتضايق إلى درجة التزاحم والانغلاق والانسداد الأفقي، بل أخذ يتشرخ وتتباعد فيما بينه مسافة الالتقاء.

ورغماً عن وسائل الاتصال السريعة والدقيقة إلا أنها تزيد الإنسان عزلة وتكثف لديه روح الوحدة والانطواء والتحلزن. فمن سرير نومه يستطيع المرء أن يحادث كل من يريد على وجه الأرض. يستطيع أن يدير أعماله وأن يرى ويسمع أحداث الكون من حوله.. ومن ثم فإنه لم يعد مضطراً لرؤية أحد أو مقابلة أحد لأن وسيلة الإنجاز واختصار الأشياء بما في ذلك الزمن أصبحت بين يديه..

وفي عالمنا العربي الذي صار مفتوحاً أصبحت حتى الروابط الأبوية والأسرية هي الأخرى تحللت وتفككت وتباعدت. الأب لم يعد يرى أبناءه إلا فيما ندر. الأم مشغولة بعملها أو بصداقاتها، وقد تركت قدر ومصير أطفالها في يدي الحاضنات والمربيات، والخادمات.

حتى عند الالتقاء والتجمع ترى الأسرة مشتتة في أفكارها وثقافتها، فالأب مختلف الثقافة والرؤية للحياة، والأم هي الأخرى لها ثقافتها الخاصة ورؤيتها الخاصة، والأبناء عوالم مختلفة، كل يفكر على شاكلته وينهل ثقافته على شاكلته، ويتشكل وفق مشاهداته وقناعاته، وقراءاته المختلفة المختلطة المتباينة أي أن الجميع غرباء عن بعضهم في أفكارهم وميولهم ونموذجهم الثقافي.. حتى وإن كانوا تحت سقف واحد.

وصدقوني إذا قلت لكم إن المجتمعات الغربية أقل حيرة واضطراباً وقلقاً من مجتمعاتنا الشرقية وبالذات في عالمنا العربي.

فالغرب مستقر، وممنهج، ومعالمه واضحة، واستشراف المستقبل لديه واضح، وأفكاره وإن كانت مختلفة إلا أنها متقاربة لا تعاني من التصارع، والتصادم، والتناقض ..

بينما مجتمعنا العربي أصبح مجتمعاً وهمياً ظنياً يعاني من الضبابية والاختلاج، في فكره وعقله الجمعي، بسبب هذه الحروب من الصراعات الفكرية والعقائدية والصراعات السياسية، وإذا كانت الأرض ساحة للعراك الحربي فإن العقل هو الآخر صار ساحة للعراك الفكري، إذ ينعكس ما يدور على الأرض وفي الفضاء على عقل المجتمع والأمة.

لقد أصبح المجتمع نهباً للتنازع الفكري والثقافي والسياسي، وصار ضحية للنزاعات المحمومة، المختلطة، المتباينة، فأصبحت ثقته بالمجتمع والناس من حوله مهزوزة، بل أصبحت ثقته بنفسه مهزوزة لأنه لا يستند إلى قاعدة ولا يقف على أرضية ثابتة.. لأن ثوابته العقائدية والثقافية هزت هزاً عنيفاً، ولم يعد هناك جاذبية فكرية أو عقائدية تشده إلى ذاته وكيانه، وأصبح مفلوتاً يدور خارج الجاذبية في أفلاك من الحيرة والارتباك، وهذا سوف يؤدي بل وسوف ينتج حتماً أزمات سياسية، وأزمات أخلاقية، بل سيكون المجتمع مصاباً بعطب نفسي من الصعب إن لم يكن من المستحيل علاجه.. إن لم يتم تداركه بإخلاص، وحكمة ووعي.

صحيفة الرياض.

أضيف بتاريخ :2018/05/04

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد