آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. منصور الجمري
عن الكاتب :
كاتب بحريني ورئيس تحرير صحيفة الوسط البحرينية

تقويم الأخطاء مطلب إنساني

 

 منصور الجمري

بَعدَ نَكسةِ حُزيران العام 1967 ارتفعت أَصواتٌ تُطالبُ بِمُراجعةِ ما جرى لِتحديدِ الأَخطاءِ والتعلُّم مِنْها وتَحاشيها، لكنِ ارتفعَ شِعارٌ مُضادٌّ وهو: «لا صَوتَ يعلو فَوقَ صَوتِ المعركة»، وذلك تحت ذَريعةِ أَنَّ التعرُّف على الأَخطاءِ يَتمُّ بعد أنْ تنتهي المعركة. لَكنَّ الْمعركَةَ انتهت، وانتهت كُلُّ المَعاركِ، وَلايزالُ الشعارُ مَرْفُوعاً، وَتحوَّلَ إلى ثَقافةٍ وَنهجٍ يَتَّبِعُهُ، تَقْريباً، كُلُّ من دَخلَ في مَيدانِ العملِ السياسيّ، سواءً كان على الجانبِ الرسميّ أو المُعارض.

وَعِنْدَما كُنَّا صِغاراً، كُنَّا نَسمَعُ أَنَّ «هذا الْمَوضوعَ لَمْ يَأْتِ وَقْتُهُ»، والْمَقْصودُ بِذلكَ مُراجعةُ ما حَدَثَ، وَمَنْ فَعلَ ماذا، وَلِماذا، وَغَيرُها مِنَ الأَسْئِلةِ التي تَبقَى مُؤجَّلةً إِلى وَقْتٍ غَيرِ مَعْلوم؛ لأَنَّ الزَّمانَ ليس زَمانَ طَرْحِها. وَهكذا كَبُرْنا، ومازِلْنا نَسْمَعُ الْجُملةَ والشّعارَ يتردَّدُ بِعدَّةِ أنماطٍ وَمِنْ كُلّ جانِب، مِنْ دون أَنْ يأْتيَ الوقتُ الذي يُمكنُ أَنْ نَتعلَّمَ فيه مِنَ الماضي وَمِنَ الحاضر، وَأَنْ نستخدم كلَّ ذلك مِنْ أَجْلِ أنْ نَسْتَعِدَّ وَنَصنعَ مُستقْبلاً مُختلفاً، كما تَفعلُ كَثيرٌ مِنَ الْمُجتمعاتِ.

وَعِنْدَما كُنتُ أَدرُسُ الْهندسةَ، كان من المفاهيم الأَساسيَّة تقول لنا إنَّ أَيَّ نِظامٍ هَندسيّ (أَو غير هَندسيّ)، لا يَكتمِلُ وَلا يَكونُ نِظاماً إلَّا إذا احتوى على feedback، أي «تغذية راجعة»، فمَثلاً جِهازُ ضَبطِ بُرودةِ الْمكيّف، لا يقومُ بِضبطِ دَرجةِ الْحرارةِ أَو الْبُرودةِ إلَّا مِنْ خِلالِ تَغذيةٍ راجعة. وَكُنَّا لا نَجدُ كَلِمةً وافيةً وَمُكتمِلةَ المعنى بِاللغةِ الْعربيَّة لترجمة feedback بِحيثُ يُمكنُ أَنْ نستخدِمَها باستمرار. وَهذا رُبما يَشرَحُ لنا جُزءاً من الْمُشكِلةِ، فالتَّطوُّرُ الْحضاريُّ قام على نَهضةٍ عِلميَّةٍ حَديثَةٍ في كُلّ الْعُلومِ والْحُقول، وَهذهِ جاءت معها مُصطلحاتٌ تَتَضمَّنُ مَعانيَ عَميقةً جِدًّا، لكنَّ العالمَ العربيَّ كان غائباً عَنْ كَثيرٍ مِنْ جَوانبِ الحضارة، وبالتالي فإنَّ مِثلَ هذه الكلماتِ والمُصطلحات والمفاهيم قد لا تَتوافرُ بِصورةٍ وافيَة.

وَلِذلك، فَليسَ مُسْتَغْرباً، أَنَّ تَقويمَ الأَخطاءِ، أي «التَّغذية الرَّاجعة»، ليس مَوجوداً في الْعملِ السياسيّ، ولاسيَّما أَنَّ هذا الْمفهومَ يَفترضُ أَنَّ مَنْ يَتصدَرُ الْعملَ السياسيَّ يُمكنُ أَنْ يُخطئَ، في حِين أَنَّ مَوروثاتِنا تَقولُ إنَّ الْخطأَ بَعيدٌ عَنْ أُولئكَ الذين يَتمكَّنونَ مِنَ الوُصولِ إلى صَدارةِ الْعملِ السياسيّ (مِنْ هذا الْجانب أَو ذاكَ)، وَبِالتالي فَإنَّ مُناقشةَ الْأَخطاءِ تُعتبرُ خُروجاً عَنِ الخطّ الشعبيّ الْمُعارض، أوْ خُروجاً على النظامِ الرسميّ. وعليه، فلا غَرابةَ أن يُستبْدلَ تقييمُ الأوضاعِ والمُمارساتِ بتَنابُزٍ وَسُخريةٍ، وَإثارةٍ للأحقادِ وَالْكراهية، وجُنوحٍ نَحوَ الْقهْرِ والْقمْع والْعُنْفِ والإرْهابِ، بَدلاً منَ التَّفاعُل وَالتَّعاطي بِمنهجٍ يَّرتقي سِلميّاً بِالمُجتمعِ الإنسانيّ إلى مُستوىً أَفضل مِمَّا كانَ عليهِ بِاستخدامِ الْحِكمةِ وَالْخُبرةِ، وَبِإفساحِ الْمجالِ للتَّعدُّديَّةِ في الآراءِ وَالتَّسامُح.


صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2015/12/26

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد