آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد العزيز الخضر
عن الكاتب :
كاتب سعودي

إنتاجية أم كرف الموظف

 

عبدالعزيز الخضر ..

لكل عمل طبيعته في القطاع العام أو الخاص، وحتى داخل المؤسسة ذاتها. تختلف في نوعية الضغط اليومي والجهد المبذول فيها، فالنظر للعمل فقط من زاوية الجهد والإرهاق البدني هو تصور بدائي لطبيعة الإنتاج وتقسيم العمل في هذا العصر، فليس من يكرف أكثر.. يأخذ أجرا أكبر، وإلا لم يعد هناك معنى للخبرات والتعليم والكفاءات والتدرج الوظيفي.

 

الموظف سائق الشاحنة يأخذ أجرا أكبر من العامل الذي يحمل البضاعة فيها، ولهذا كلما ارتقت رتبة الوظيفة يقل فيها الجهد البدني ويحضر فيها عامل آخر هو قيمة الخبرة الوظيفية والمعرفة وتحمل مسؤولية الجهة التي يعمل، ومقارنة إنتاجية وكيل الوزارة لا تكون مع الموظف الذي هو أقل مرتبة منه، لاختلاف المهام، وإلا ستكون مجرد مشاغبات صبيانية، تقفز على أصول هيكلية وتقسيم العمل وتوزيعه، وهذا ما تلاحظه في بعض التعليقات حول إنتاجية الموظف أو الوزير لقلة الخبرة والوعي.

 

ولهذا استغربت قبل أيام من مذيع قناة فضائية محترمة، وهو يسأل أمين أمانة المدينة المنورة الذي أساء التعامل مع مفهوم البصمة وطلب تكرارها خلال العمل عدة مرات، فيسأله المذيع هل أنت تبصم مثلهم أم لا!؟ متوهما بأنه سيحرجه، وهو سؤال غير مهني.. ويدل على عدم دقة في معرفة نوعية الوظيفة، ومناقشة أصل المشكلة، فأخذ المذيع مع ابتسامة باهتة يشخصن القضية بحجة العدالة وكأن الأمين إذا بصم يحل الخلل لديه في العمل.

 

لكل عمل طبيعته ولا علاقة لذلك بمسألة حكومي أو قطاع خاص، فالجهد في التعليم يختلف عن العمل الإداري وهو يختلف عن الميداني، والشخص العادي يعرف مسبقا طبيعة العمل الذي يلتحق به والجهد الذي يبذله فيه، ودرجة الارتباط بالجمهور، وحتى في الدائرة نفسها تختلف المهام في كل إدارة.

 

ولهذا إنتاجيته لا تقاس بمدى «كرف الموظف» وإنما بتنفيذ ما هو مطلوب منه في وقته وفق طبيعة العمل، فحتى البقاء في الكرسي لانتظار عمل أو معاملة هو بذاته عمل، فرجل المطافئ لو لم يحدث حريق طول الشهر في الجهة التي يعمل فيها، هل ستقول له: ما شاء الله ما اشتغلتوا الشهر! وكأنك لا تحسب مرابطته بمكان العمل طوال الساعات المطلوبة منه، أو تلوم موظف الأرشيف الذي يحضر كل ساعات الدوام، وليس عليه ضغط، فتمن عليه بأنه جالس يفطر ويشرب شاي، وأن إنتاجيته صغيرة، هو مرابط في مكان العمل، ويلبي المهمة في اللحظة التي يحتاجها المكان.

 

من المهم أن يعيد كثيرون نظرتهم للواقع مع تغير الظروف الاقتصادية وتحولات التقنية التي أحدثت تغييرا جذريا في رؤية العمل وطبيعته ومستوى إنتاجية الموظف، وقلصت المسافة والفوارق بين القطاعين العام والخاص، ولهذا كانت أحد الأوهام الشعبية في الإعجاب بالقطاع الخاص هو كرت الدوام أو البصمة حاليا، ومع انتشار هذه الأجهزة حتى عند كثير من الجهات الحكومية، لم يعد هو الحل السحري لرفع مستوى الإنتاج في المنشأة أو دلالة على الجودة بمجرد الانتقال من التوقيع إلى البصمة. هناك الكثير من المواضيع تجاوزها الزمن وأصبحت تاريخية فحتى حكاية راجعنا بكرة.. التي أخذت حيزا ضخما من ذاكرة الصحافة ورسومات الكاريكاتير المحلي عالجتها كثير من متغيرات التقنية وانتشارها، وأصبح جزء كبير من الأعمال التي يحتاجها المواطن يتم بواسطة الشاشة.

 

من أكثر القناعات التقليدية رسوخا في المجتمع هي أن طبيعة الوظيفة الحكومية أكثر راحة وأمانا من العمل في القطاع الخاص، لكن هذه القناعة الاجتماعية كانت أشد قوة في السبعينات والثمانينات، لدرجة أنه لم تكن توجد ثقة بموظف القطاع الخاص عندما يتقدم الشاب للزواج، باعتبار عمله غير مضمون خاصة إذا كان في شركات صغيرة، ويحتاج وقتا طويلا للثقة بعمله، وحتى العمل الحر التجاري الشخصي لا يكفي للاقتناع بكفاءة الشخص إلا بعد ظهور معالم نجاحه وملاءته المالية في الواقع.

 

وللأسف من أشهر الأوهام الموجودة عند نخب مخضرمة رسمية وإعلامية هو اجترار هذه الفكرة، وعدم الشعور بالتحول الكبير مع تغير المعطيات التاريخية، فقد أصبح هناك تمييز نوعي لطبيعة العمل والدخل بما يتناسب مع المؤهل، وأصبح العمل الحر ينظر له بإعجاب كبير في المجتمع حتى قبل ظهور ملامح النجاح في تجربة الشخص، ومنذ أكثر من عقد أصبحت مناسبات وملتقيات شباب الأعمال وغيرها من العناوين الجذابة والبريستيج الاجتماعي. ولهذا تبدو حكاية الكلام النمطي حول تشجيع الشباب للاتجاه للقطاع الخاص غير واقعية، فقد انتهت صلاحيتها منذ زمن طويل، وكأن الشاب اليوم يجد خيارات سهلة بين الوظيفة الحكومية أو القطاع الخاص.

 

هذا الكلام كان يقال في السبعينات والثمانينات فعدد السكان المحدود جعل هناك وفرة وظائف، ولو عدت لأرشيف إعلانات الصحف في تلك المرحلة، وكيف تصوغ الشركات إعلاناتها لجذب الشاب السعودي، وحتى القطاعات العسكرية بالصحف والملاعب، لأنها كانت تعاني من نقص الإقبال بسبب تعدد الفرص والخيارات، أما الآن فكل مجال عملي مضغوط وفرصه محدودة، لهذا يبدو الكلام عن تفضيل الشباب مجالا على آخر ترفا تخيليا لا معنى له، فاليوم أي جهة تعلن من قطاع خاص أو عام عن وظائف ستجد المئات والآلاف يتقدمون على عدد محدود من المقاعد!

 

صحيفة مكة

أضيف بتاريخ :2016/10/23

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد