آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد عبد الله محمد
عن الكاتب :
كاتب بحريني

التوقيع الخادع

 

محمد عبدالله محمد

دعونا نعيد ما قاله وزير العدل الألماني هايكو ماس قبل أيام. الوزير قال بخصوص اعتراف اللاجئين بالدستور الألماني كأحد شروط الإقامة على الأرض الألمانية بأن «الاعتراف الاضطراري الشكلي لا يُقدمنا ولو خطوة صغيرة للأمام فيما يتعلق بتوصيل قيمنا، إنه لا يعدو أن يكون إجراءً شكلياً بحتاً».

 

ثم أضاف بعد أن عدد اللاجئين المسجلين في بلاده إلى مليون شخص: «إنه ليس من حق أي لاجئ أن يضع جذوره الثقافية أو اعتقاده الديني فيما يتعلق بحقوق النساء على سبيل المثال فوق مبادئ الدستور الألماني وقيمه» داعياً إلى تنبيههم عبر دورات اللغة والاندماج في المجتمع.

 

الحقيقة أن التعليق على ما قاله الوزير هايكو ماس ليس بالأهمية التي يمكن التعليق فيها على ما هو أبعد من المجتمع الألماني، وهو المتعلق بمسائل الهجرة من الأوطان بصورة أعم. فهي مسألة مهمّة يتداخل فيها السياسي والثقافي والاقتصادي. وهي عوامل كانت تتحكم فيها عبر التاريخ.

 

على مستوى الجسد، كيف تساهم الأرض في تشكيلنا؟ الجواب على ذلك يأتي من أشكال الناس أنفسهم. فمن عاش في منطقة حارة مُشمِسَة كانت مادة الملانيين في جلده وافره وأصبح أكثر ميلاً للسُّمرة. ومَنْ عاش في مناطق شحيحة الشمس قلَّت لديه تلك المادة وقلَّت دكانة بشرته.

 

شعوب الإسكيمو عيونهم لوزية وبلا أشفار طويلة، لكنها محشوة بشحم زائد، وذلك للتكيّف مع تدنّي الضوء الشمسي وشدّة البرد. أيضاً ترى بنات اسكندنافيا وقد بدت شعورهنّ شقراء وصهباء بل وبيضاء أحياناً لخلوّها من المادة الملوَّنة بسبب الطقس وهكذا دواليك في أماكن كثر.

 

أيضاً فرضت الأرض على الناس شكل حياتهم. فالأرض الوفيرة الماء (أنهار وعيون وأهوار) جعلت ناسها يشتغلون بالزراعة، وبالتالي التشبّث بأرضهم. والأرض القاحلة المقفِرة فرضت على أهلها الترحال لنيل الماء والكلأ، وبالتالي فهم ليسوا حريصين على أرضٍ أو مضارِبَ بعينها.

 

وعندما أصبح الناس على ذلك التقسيم (زراعي/ صحراوي) انعكس ذلك على تطورهم الاجتماعي. فالمجتمع الزراعي يتلقى التغييرات الاقتصادية الجديدة بطريقة أكثر سلاسة من المجتمع الصحراوي الذي لم يَعِشْ الحقبة الزراعية التي هي أطور اجتماعياً من حقبة البداوة.

 

ليس ذلك فحسب، بل ينعكس ذلك حتى على استيطان الأمراض بين أرضٍ وأخرى. فهناك أمراض تستوطن في الغابات الاستوائية الماطرة، وهناك أخرى تضرب مناطق ريفية أو حضرية أو ساحلية. كما تلعب الأرض في تشكيل أجسام الناس وقدرة تحملها، بل حتى على شكل الحيوان نفسه.

 

أتذكر تقريراً للقنصلية الفرنسية في بغداد العام 1802م وهو يصف في معرض حديثه عن الجيش العثماني طبيعة الجِمال بين العراق وسورية واليمن ونجد، حيث يشير إلى أن جِمال العراق والشام أقل تحمُّلاً من جِمال اليمن وشبه الجزيرة العربية، في عبور الصحراء والصبر على الماء والطعام.

 

أيضاً تفرض الأرض على ساكنيها طبائع ثقافية محددة. فالشعوب التي تسكن السهول أو القريبة من البحر تكون طبائعها مختلفة من حيث لِيْن العريكة عن تلك التي تعيش في بطن الصحراء أو في الجبال، وفي طريقة تلقيهم وقبولهم للأغيار وللثقافات الوافدة، وتأثيرهم عليها هم أيضاً.

 

لذلك وجدنا أن اختلاط القبائل العربية بالشعوب العراقية والشامية في العصور القديمة قد جعل اللغتين العربية والآرامية تتأثران ببعضهما، إذْ لم تبقَ الآرامية آرامية خالصة ولا العربية عربية خالصة، ما خلا تلك التي كان يتحدث بها أهل الجبال، حيث صعوبة التواصل الثقافي معهم.

 

لكننا وجدنا مناطق السهول قد دخلها التعريب بطريقة أكثر لِيناً من مناطق أخرى وعِرة كشمال العراق. هذا الأمر وجدناه أيضاً على الساحل الإيراني الذي كان ساكنوه مطواعين للمتغيرات الثقافية، التي فرضتها الجماعات المهاجرة من الخليج أو من شِحْر عُمان في غابر الأيام.

 

نعم هناك مجال قوي لنظرية «الإمكانية الجغرافية» التي ابتكرها بول فيدال لابلاش والتي تقول بأن الإنسان ليس أسيراً لبيئته، فهو يختار «من بين إمكانياتها ما يشاء تبعاً لمستواه الحضاري» لكن الصحيح أيضاً هو أن حركة الإنسان وإمكانيته هي ضمن حدود «دكتاتورية الجغرافيا».

 

أرجع الآن إلى ما قاله وزير العدل الألماني هايكو ماس عندما أشار إلى «الاعتراف الاضطراري الشكلي - مِنْ قِبَل اللاجئين - لا يُقدمنا ولو خطوة صغيرة للأمام». فما ذكره الوزير صحيح جداً على الأقل ضمن الفترة الحالية للحياة الجديدة لهؤلاء اللاجئين القادمين من مجتمعات متباينة.

 

فالإنسان الذي يعيش في أرض محددة يتشكَّل بها في تعاملاته الإنسانية مع الآخرين ومع المادة والروح، كالانقباض أو الأريحية أو الانفتاح، وبالتالي فهو يحتاج إلى احتكاك مباشر واستهلاك جيلٍ أو جيلَيْن كي ينسحب تدريجياً من أرضه الأم السابقة إلى الأرض الحاضِنة له على رغم أن ذلك ليس حتمياً، كما رأينا الروهينغا في بورما والأقليات في المالديف وماليزيا وأميركا وغيرها.

 

وإذا ما تشبَّث المرء بكامل عاداته في الوطن الجديد (كما يفعل الشرقيون عادة) فإن منسوب الاندماج يكون بطيئاً. فالعديد من الأسر الشرقية تعيش في منازلها كما كانت تعيش في بلدها على مستوى الخطاب والعادات سواء في الأكل أو التعبير عن ذاتها، لذلك يصبح أمر تغيرها صعباً. فمسألة الاندماج ليست أمراً سهلاً يمكن للمرء أن يتخيّله، بل هو طريق طويل وشاق.

 

ويبقى الثابت في المحصلة أن الشعوب الأصلية هي الأكثر اندماجاً مع بعضها، كونها لا تحتاج إلى قطع مسافات من الزمن كي تلتقي على مشتركات في العادات والتعاملات، لأنها بالأصل هي مكونات اجتماعية طبيعية نشأت وتزاوجت وتأثرت ببعضها بشكل طبيعي وسلس.

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2015/12/14

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد