آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الستار توفيق قاسم
عن الكاتب :
كاتب ومفكر ومحلل سياسي وأكاديمي فلسطيني، ولد في دير الغصون بطولكرم الفلسطينية، وأستاذ العلوم السياسية و الدراسات الفلسطينية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس.

أمريكا وإيران: تفكير العضلات.. وتفكير العقول

 

عبد الستار قاسم

أمريكا هي بلطجي العالم الذي يحمل على ظهره كل تلك الأسلحة الفتاكة ويطوف العالم مهددا هذا وضاربا ذاك، ومحاصرا آخرين. والعالم بالتأكيد أفضل بدون أمريكا التي دائما تهدد الأمن والسلم العالميين. إذا تتبعنا القضايا العالمية سنجد أمريكا مغموسة فيها تزيدها تعقيدا وتؤجج الصراعات والفتن والحروب. لا تترك أمريكا شقا أو جحرا في العالم إلا وأدخلت أنفها فيه. تحاول أن تكون سيدة العالم، لكنها برعونتها حولت نفسها إلى مفسدة العالم. وهي لا تتعظ من إخفاقاتها في عدد من الدول مثل أفغانستان والعراق، وتصر على غطرستها على اعتبار أن المستحيلات تنهار أمام قوتيها الاقتصادية والعسكرية.

أمريكا دولة تفكر بعضلاتها وليس بعقلها. لديها خبراء ومختصون في مختلف الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والثقافية، لكن لا يبدو أن السياسيين بخاصة في عهد ترامب ينصتون لصوت العقل. وقد ينجح صاحب العضلات يوما أو مرة، لكن أفعاله تؤول في النهاية إلى الفشل لأن قدرته على تحقيق الاتزان والتوازن ضعيفة جدا ومتهاوية حتما. كلما برزت أزمة أو مشكلة، تتصرف أمريكا كالثور الهائج الذي يضرب رأسه فيما يعترض طريقه والذي يمكن أن يكون جبلا صلدا راسخا لا يلين.

يبرز هذا السلوك الأمريكي بقوة الآن في الأزمة القائمة بينها وبين إيران. زمجر ترامب وأزبد وأرعد وتوعد، وإيران تريثت وفكرت ووازنت خياراتها، والنتيجة واضحة أن إيران تسجل نقاطا ديبلوماسية وتكتيكية لصالحها، وترفع من شأن نفسها أمام أمم الأرض، بينما يخفق ترامب بصورة مزرية بخاصة عندما أعلن عن إسقاط طائرة إيرانية مسيرة.  إيران لا تتعجل الأمور، ولا تتخذ قرارات وهي في ثورة أعصاب. هي تترك الأمور تنضج على نار هادئة، وبعدما تهدأ النفوس ويتم امتصاص العدوان أو التهديد أو الضربة تعمل على اتخاذ القرار. ومن تصرف الديبلوماسيين الإيرانيين نرى عليهم الهدوء والتفكير العقلاني، ولا نلحظ طيشا وشعارات رنانة، ولا كلاما أكبر من أفواههم. وعكس ذلك هو ما نلحظه على تصرفات الديبلوماسيين الأمريكيين. إنهم على دين رئيسهم.

إيران صبرت طويلا على تهديد الولايات المتحدة، ولم تشتعل أعصابها عندما قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، ولم تتوتر عندما فرض حصاره الجديد عليها. حاولت إيران التغلب على الإجراءات الأمريكية بالروية والحكمة وإجراء الاتصالات اللازمة مع الدول ذات الاهتمام. ديبلوماسيا، حاصرت إيران الولايات المتحدة الأمريكية التي من الصعب أن تجد دولا غير مارقة تصطف معها ضد إيران. إيران لم تنتهك قوانين، ولم تدر ظهرها للساحة الدولية، وتمسكت بالمعايير الأخلاقية التي تحكم الاتفاقيات الدولية، ولم يكن هناك من يقول إن إيران تعرض العالم للخطر إلا السعودية والصهاينة وبريطانيا.

لكن في نفس الوقت، لم تصعر إيران خدها لأحد، وأبدت قدرتها على مواجهة التحديات وملازمة أقوالها بالأفعال. حذرت إيران بداية أنها لن تتساهل مع انتهاك الأجواء أو المياه الإيرانية، وهكذا كان عندما أسقطت الطائرة الأمريكية بدون طيار. وتوعدت بريطانيا بأنها سترد إذا لم يتم الإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية المحتجزة في جبل طارق، وهكذا حصل. أي أن إيران مزجت الهدوء بالشجاعة إلى درجة أن نتن ياهو، وفق ما ورد في الأخبار، طلب من ترامب عدم التصعيد مع إيران لأنها سترد بقوة. وفي التصرف الإيراني رسالة للعالم بألا يظن أحد أن الهدوء جبن أو هروب.

هناك من يرى في شجاعة إيران تهورا قد يقلب الأمور ضدها، لكنني أرى أن الخنوع يولد الأطماع فتتجرأ الدول الغربية وإسرائيل عليها. وقد يكون في الردود الإيرانية ردعا للآخرين، ويبدو أنه كذلك.

الدول المحترمة تتصرف كما تتصرف إيران في هذه الأزمة القائمة، لكن بعد أن تكون قد أرست قواعد الدفاع عن الذات والتحصين الأمني. لقد انتبهت إيران إلى نفسها، وتبنت نظرية الاعتماد على الذات، ففرضت نفسها لاعبا إقليميا أساسيا، وستفرض نفسها لاعبا دوليا مستقبلا. وعليه نستنتج أن إيران لن تستسلم، ولن تفاوض على قدراتها وحقوقها، وستبقى صامدة وستمتص كل الآلام المترتبة على الحصار المفروض عليها. وهي ستفرض نفسها إقليميا بالمزيد، ومن كان ينتظر إضعافها سيجد أنها ستخرج من هذه المحنة أكثر قوة وأكثر احتراما على الساحة الدولية، وسيجد أن أمريكا ستجنح نحو تغيير سياساتها تجاه إيران نحو الاحترام.

إيران ستعاني كثيرا إذا نشبت الحرب، تملك أمريكا قدرات عسكرية هائلة، وستتمكن من تدمير منشآت إيرانية كثيرة خاصة تلك المتعلقة بالطاقة النووية وتصنيع الصواريخ، لكن إيران تدرك أن تدمير منشآت أهون بكثير من الاستسلام. الاستسلام يعني الخضوع والهوان والحط من الكرامة ولمدى طويل من الزمن، لكن الدمار يعني المزيد من النشاط لإعادة البناء. وليت العرب يتعلمون. لكن إيران لن تكون قصيرة اليد.

هي أولا تحمي العديد من منشآتها تحت الأرض وعلى عمق لا تطاله أعتى القنابل الأمريكية، وهي تملك قدرات صاروخية ضخمة بحيث أنها تتمكن من إطلاق موجات متتالية من الصواريخ في اتجاهات عدة في آن واحد.

هناك عرب كثر ينتظرون هزيمة إيران، ويرجون استسلامها وذلك لأسباب لها علاقة بالحقد والمذهب والشعور بالقوة وروح التحدي التي تتحلى بها إيران. الأمم المحترمة تعمل على تعلم الدروس لتحقق تطلعاتها ولا تنساق وراء تمنياتها ومشاعر الكراهية. والأفضل للعرب أن يفكروا في كيف يعتمدون على أنفسهم بدل التطلع إلى تدمير الآخرين. الآخرون يسعون وينجزون ونحن العرب نتسول ونتوسل أمريكا لإرسال مزيد من القوات إلى قواعدها العسكرية التي تنتهك حريتنا وكرامتنا وسيادة أوطاننا. شتان.

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2019/07/21

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد