المنبت: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً
ربى رشيد ..
أوراق الغربة اليتيمة
يختصر عبد الرّحمن بن منيف الكثير من الأوجاع والخيبات في روايته الرابعة "المنبت" من خماسيّته الأشهر "مدن الملح" الّذي اعتبرها المفكر الفلسطيني فيصل الدّراج، وثيقة اجتماعية تاريخية ترصد فترة من أخطر الفترات في التاريخ العربي، هي جزء من الخسارة التي تلحق البلدان، تركن إلى الأوهام وتعيش في الماضي وتخطئ في قراءة الواقع، واحتمالات المستقبل. وكما أن التاريخ ذاكرة، فإن إدراك الجديد ذاكرة أخرى، وقدرة أكبر على مواجهة المختلف والطامع والعدو الغريب كما الصّديق.
أُخوة يوسف...في كلّ زمان
يستعرض عبد الرحمن منيف في الجزء الرّابع "المنبت"، حال السلطان المخلوع "خزعل"، بعد أن أطاح به أخوه الأمير "فنر" خلال زيارة إلى ألمانيا. هذا الانقلاب الذي شارك فيه رجال زرعهم مستشار السلطان المخلوع "الحكيم صبحي المحملجي" أثر على العلاقات الودية بين خزعل والحكيم، الّذي زوّج السلطان ابنته الوحيدة.
السلطان بات يتعلق بأدنى بصيص أمل قد يعيد له عرشه المخلوع، ولم يلتفت إلى كم الوعود التي ساقها له إخوانه لكي يأمل في عودة سلمية، فيما هم يفعلون ذلك من أجل أن يصرف النظر عن أية تحركات قد يقوم بها من أجل عودة الحكم إليه.
أما الحكيم وسط اغترابه، فكفر بكل ما عمل وسعى من أجله في السابق. تغيرت نظرته لبدو موران الذين تنكروا لفضائله عليهم، فهم مثل الصحراء التي يعيشون فوقها، إذ بقدر ما تبدو الصحراء بسيطة، مكشوفة، متشابهة، فهي خادعة، غدارة، ولا يمكن للإنسان أن يستحوذ عليها.
كان سيّدهم... وغدا أحدهم
وفي هذا الجزء الكئيب، تطفو لحظات الخيبة لحكّام وأوطان. خضع السّلطان وانكسر واتّكأ على عصا أحضرت له على عجل، بعدما أنهك جسد طويل العمر، أيّام وأعمار غدرت به وأطاحت بعرشه. في هكذا مواقف يضطّر فيها السّلطان إلى الاعتراف أمام "الرجاله" بالخيبات وغدر الأصحاب وتغيّر الأخوة، وتضطّر حتّى دموعه الّتي سالت على خدّه المخطوط بالخيبة، إلى الغدر به والقسوة عليه. وتراه ينهي حديثه في "بادن بادن"، إحدى مدن الضّباب، "الله لا يكلف نفسًا إلّا وسعها"، وأقسم إنّه لن يلوم أحدًا على أيّ قرار يتّخذه، إن عاد إلى موران أو بقي هنا...
أوراق الغربة اليتيمة
الحكيم
يبرز في هذا الجزء تغيّر الأفكار لدى الشّخصيّات وتسارع وتيرة الأحداث. لقد حاول الحكيم أن يتواصل مع ابنه غزوان الذي يقطن في أميركا، علَّ بلاد العم سام تعطف على صهره السّلطان، وتعيده إلى بلاده ومجده. لكنّ حكيم البادية، لم يكن يعي أنّ ابنه الوحيد هو حقًّا بعيد.
حاول الحكيم الحفاظ على مقعده في الحكم الجديد، ولعب على خطّ الدّاخل والخارج، علّه يلملم بعض الّذي أفنى عمره من أجله. دارت به الدنيا، اضطربت ثمّ عصفت. كيف يتصرّف إزاء الّذين منحهم أجمل ما في العمر؟! لم يكتف بأن يحبّهم ويخدمهم، بل أعطاهم جزءًا من لحمه الحي، أعطاهم ابنتهم الوحيدة، وها هم اليوم يتخلّون عنه، وكأنّه حبّة رمل تحرّكها رياح الخماسين الثّقيلة.
غزوان
وغزوان الّذي ابتعث على نفقة صهره السّلطان خزعل -صاحب الفضل الكبير عليه وعلى والده- إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، كان يعتمد الحكمة الّتي تقول "يجب أن نميّز دائمًا بين الرّأسمال والإدارة". لذلك رفض غزوان المجيء إلى "بادن بادن"، حيث يقطن أبوه والسلطان المخلوع، وآثر العودة إلى موران، ليلحق بالرّكب الجديد، ولململة ما بقي من ثروات أفنى أبوه الحكيم عمره في جنيها.
سلمى زوجة السّلطان
أمّا سلمى، فقد جسدت دور الفتاة الصغيرة المستغلة من قبل أب جشع، فرّط بوحيدته الجميلة وأحلامها، كرمى لسلطان يباهي برجوليته بقدر ما يملك من النساء ... ضاعت سلمى بين وضاعة الرجلين، وتخلِّي الأم التي طارت حين وجدت فرصتها للطيران. بقيت سلمى أسيرة الغرفة الكئيبة حكاية بعمر شمعة، ورمزاً لضحايا هذه الطّبقة الحاكمة الفاسدة.
المنافي مقابر
يرجّح كثير ممن قرأ هذا الجزء، أنّ مُنيف في هذا العمل لم يتحدث عن مجرد نفيٍ لسلطان مخلوع مغدور به، بل عن نفسه، وكيف كان تأثير الغربة والنفي قاسيًا عليه. حياة المنفى دائما قاسية، "وربما لأنها مؤقتة، تبقى هي الأبدية"، وأكبر قسوتها أنها تضع الإنسان في حالة انتظار دائم. فإذا كان الوطن "وهما كبيرا" - كما يقول منيف، فإن قسوة المنفى، أنها تجعله ينتظر هذا الوهم، فيضيع الإنسان بين الوهم والانتظار فهو كـ"الـمُنْبتّ"، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
هكذا قضى السّلطان في منفًى بارد وموحش، يشعرك دائمًا أنك دخيل، وغير مرغوب بك، المكان الذي تفترضه ليغدو وحده الأبدي كالقبر. وفي اليوم التّالي وصلت طائرة لنقل جثمان السّلان البارد من موران. كانت نفس الطّائرة التي حملته إلى هنا لما كان سيّد القصور هناك، واليوم هو يعود كرهًا لا طوعًا إلى تراب أرض الصّحراء الأبيض.
مدن الملح، "المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي، بمعنى أنها لم تظهر نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، وإنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد".
وتبقى المنبت قراءة للهزيمة والعيش في ظلالها مع الألم والحسرة وانتظار ما لا يتحقق ولا يأتي.
أضيف بتاريخ :2017/02/07