ثقافية

ظاهرة الأمس البعيد، ما بقي من تلك الصحراء!

 

على الغلاف الخارجي للجزء الأخير من خماسية مدن الملح "بادية الظّلمات" وردت العبارة التالية لــ "ديفيد جيلمور" : العرب بالنسبة للأمريكيين هم مجرد مخلوقات متوحشة غريبة لا تستحق أكثر من التقاط الصور لها وهي على ظهور الجِمال، دون أن يستحقوا أي جهد لفهمهم كبشر.

 لعل هذا القول يعكس روح رواية مدن الملح، هذه الرواية التي حاولت وعبر أجزائها الخمسة؛ أن تشرح معاناة البشر في صحراء العرب وما يعانيه إنسان هذه المنطقة من ظلم وجور من مختلف الأطراف الخارجية والداخلية، رغم المقومات الكثيرة التي يملكها، ورغم الثروات الهائلة التي تتوفر بين يديه، لتغدو أداةً لإذلاله وتركيعه ومن ثمّ اغتياله.

 

تثور البادية ، وتحلك الظّلمات

 هذا الجزء عائم على بحر من أحزان وخيبات ومظالم. أمن المعقول أن يغير الحكم الإنسان كل هذا؟ هنا يبدو لنا المثقف والجاهل، المسافر والمقيم، الضخم والهزيل، كلهم بنفس السوء. الذاكرة لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفراً دائماً نحو الحرية ، فإنها تصبح سجنه. وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام.

وإذا كانت في حياة كل إنسان لحظات ومواقف تأبى أن تغادر الذاكرة، فليس لأنها الأهم أو لأنها أعطت لحياته مساراً ومعنى، فربما لم تقع بنفس الدقة أو بالتفاصيل التي يتخيلها أو يفترضها، وإنما لفرط ما استعادها في ذاكرته بشكل معين.

 ربما الذي يتمناه يوماً بعد آخر سيغدو وحده الحقيقة، أو حتّى وهم الحقيقة. بعد أن يستقر الأمر بلا منازع لفنر يعود منيف لرصد حالة الناس في ظل هذه المتغيرات، حيث لا تبقى العادات هي نفسها ولا حتى الأمكنة، ويتغير حتى شكل الانتماء والهوية. في هذا الجزء الأخير يصبح اسم الأرض بالدولة الهديبية ويصبح فنر شخصية أسطورية، إلى أن يشاء اللّه، وينقلب السّحر على ساحره الأمير.

 

ذاكرة الأمسَين

يقسم منيف الجزء الأخير من الخماسيّة إلى قسمين، ذاكرة الأمس البعيد، وذاكرة الأمس القريب، يتحدث في الجزء الأول عن الأب، خريبط مؤسس السلطنة الهديبية.

 أما الجزء الثاني فيتحدث عن أيام أبنائه، كيف استلم أحدهما الحكم بعد أبيه، متأثراً بمحاولة الاغتيال وتدخله لحمايته، وتعرضه للجروح والشكوك بنفس الوقت.

إنه هو من دبر هذه المكيدة؛ حتى يرجح كفته بالنسبة إلى مسألة خلافة أبيه، ويستمر إلى الابن الآخر -الذي يحظى أكثر باهتمام منيف خلال الرواية بشكل عام- وهو فنر ، كيف انقلب على أخيه ما إن سافر خارج البلاد بعد زواجه من ابنة الحكيم.

في الرواية كثير من السياسة، بالتوازي مع التاريخ، ربما في هذا الجزء يحاول منيف أن يثبت أن ما يتحدث عنه ليس فقط رواية وشخوصًا من خياله، بل إنه يتحدث عن التاريخ الذي لا نعرفه، عن ألعاب السياسة كيف كانت وكيف أسست إحدى أكبر وأقوى الدول في منطقة الشرق، من خلال استعراض "موران" التّي نهبت خيراتها وذلَّ أهلها. "هذي موران ما تفهم إلا بالعصا، ولا تتعلم إلا بالعين الحمرا وبالدم، واللي يريد جرب خله يطلّع قرعته".

 

قراءة في الشخصية الروائية لمدن الملح

تحت هذا العنوان، تعتبر مريم رحمتي تركاشوند في بحثها حول المعرفة الروائية من شخصيات نفطية، أنّ الرّوائي منيف حاول خلال تصويره الأدبي والروائي لشخصيات روايته الخماسية الشهيرة "مدن الملح"؛ أن يكشف عن المراحل الثلاث لظهور المملكة العربية، وتطورها واستقرارها في الخليج العربي على المستويين الداخلي والخارجي. لقد جرى تصنيع نوع من الدولة؛ هي مزيج من خضوع تام للسيطرة الخارجية والاستبداد الداخلي، عبر إخضاع المجتمع، بحيث جعل منها مصدراً للقمع الشامل والهزيمة الشاملة. وإنّ هذه الشخصيات تتحول بفعل الحدث النفطي، ليتعرف القارئ من خلالها على الظروف السياسية المحاطة بالمملكة العربية في القرن العشرين.

وتضيف قائلة: "والمعرفة الأخيرة التي نتعلمها من قراءتنا لشخصيات رواية مدينة الملح هو الغزو الحضاري العالمي الممثل بأمريكا بكل ثقله ــ حيث تحل شركة نفطية أمريكية بوادي العيون، منقبة عن النفط ــ فتغير معالم المنطقة جغرافياً وسكانياً وحضارياً وثقافياً، تشرد بعضهم وتتخذ من بعضهم الآخر عبيداً يقومون بالأعمال الشاقة، وبمرور الزمن تستطيع هذه الشركة أن تمارس تأثيراً قوياً في المجتمع على المستوى الثقافي والسياسي، وذلك من خلال المستشرق الإنكليزي هاملتون". ليبقى لسان حال أهل الأرض: "ونحن بقلوبنا حسرات، لو جعل ماء البحر مداداً وأديم الأرض قرطاساً لما نفذت، فاتركونا بحسراتنا يرحمكم الله".

 

في نهايات العصور تكبر الآذان وتصغر العقول

مثلما تبدد الجزء الأكبر من ثروة النفط، تبدد الجزء الأكبر من الزمن الذهبي، الذي كان بمقدوره أن يجعلنا على صلة بالعصر، وعلينا الآن أن نواجه رهانات ما تبقى من عصر النفط، وما بقي من الزمن الذي كان ذهبياً وواعدًا.

ولأن البادية بالغة السعة، والظلمات تزداد وتتكاثف، فإن العقل وحده هو الذي يبني الأوطان، ويترك إمكانية لأجيال المستقبل أن تواصل العيش، وأن تتدارك ما قصرت عنه الأجيال التي سبقتها، وإلا  فالفناء المادي ما ينتظر أوطانًا وشعوبًا. وها هي لعنات النشيد الأخير تعلو قبل أن يعم الصمت وتمتلئ الصحراء بالوحشة مرة أخرى.

ومع نهاية الجزء الخامس والأخير، لم تنته القصّة هنا، لم نرَ نور الشّمس بعد، وأسياد الأرض لا يزالون يشتكون من غربة العبيد. ها هي ذات الأخطاء تُعيد كرّتها الأولى، وثروات الشعوب تُسرق على عين تجّارهم،  وأهل المنطقة يستمر تيههم في بادية الظلمات، بين مدن ملحية وجدران إسمنتية، وبلاط  قصورٍ مرصّعة من ذهب هذه الأرض، أنشأت على عجل فوق رفات أبناء كتمو سرّها المدفون.

أضيف بتاريخ :2017/03/13

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد